منذ عام 2005، وبوصلة الرئيس سعد الحريري توصله دائماً الى الرئيس نبيه بري وخلفه أو معه حزب الله. 15 عاماً، كان يفترض أن ينضج فيها الابن غير البكر للرئيس رفيق الحريري، الوارث العباءة السياسية بفضل الرياض وواشنطن وباريس. لكن هذه الأعوام التي أفقدته الجزء الأكبر من الثروة ومن الاعمال في السعودية ومن المكانة التي كانت لديه فيها، أوصلته الى مفترق طرق، في كل مرة كان يعوّل عليه حلفاؤه السابقون وبعض الحاليين، ليعتمد أسلوباً مغايراً. لكنه يستمر في إدهاشهم بأن يسلك الطريق نفسها في كل مرة، فتوصله الى النتيجة نفسها، فيصبح خارج السراي الحكومي، ويفقد بخروجه مجدداً رصيداً جديداً. ليست كثيرة الفوارق بين التحالف الرباعي، وتسمية الدكتور مصطفى أديب، الحصيلة نفسها لدى حلفائه الذين يرتد عليهم في كل مرة، لأنهم لا يماشونه في النهج الذي يسلكه. ليست القوات اللبنانية وحدها التي يتهمهما بأنها تعاديه وتنقلب عليه. كل من لا يصفّق له بات في نظر الحريري خصماً، يشنّ عليه معركة بالواسطة، هدفه فيها أن تسمع السعودية من ورائه. قراءة الرئيس فؤاد السنيورة لتأييد تسمية أديب، تعني أيضاً إشارة للرياض ولواشنطن، إلى أن الحريري أمسك بصقور المستقبل وسابقاً 14 آذار، وأن التسوية تضمن الجميع معارضين وموالين داخل الصف الواحد. حتى الرئيس تمام سلام المعروف بتمايزه، ركب الموجة نفسها. هل لأن فرنسا وحدها قالت ما قالته، فمشى الحريري ومن معه، من دون انتظار ما تريده واشنطن أو القبول باعتراض السعودية، في حين أن زيارته بكركي في تموز الماضي، بشأن مبادرة الحياد، لا تزال حديثة العهد؟
بعض الأوساط السنية كان لا يزال يراهن على أن قرار المحكمة الدولية وانعكاسه على الشارع السنّي، سيكونان بمثابة الدفة التي تدير أي ترتيب داخلي حكومي، ولا سيما في الوجهة المتعلقة بحزب الله. لكن حركة الرئيس الفرنسي بدأت بـ»تعطيل» الحريري وإبطال مفعول أي تحرك، فبدت كأنها أوجدت له مخرجاً لائقاً، في مواجهة شارعه. ثمة من استذكر 7 أيار، ليس بمعنى المعركة العسكرية، بل بمعنى ضعف مواجهة القيادات السنية الدائمة لأي مأزق سياسي أو أمني؛ فالمشكلة تكمن في أن يكون حدّ المواجهة إما تأليب الشارع وقطع الطرق لصالح مؤيدي الحريري أحياناً، أو معارضيه أحياناً أخرى، أو تراجعه هو الى مربع الانتظار مرة جديدة، على أمل أن تكون حكومة أديب مرحلية، فيعود الى الواجهة، من دون أي مشروع سياسي واضح. والسؤال المطروح اليوم هو هل تقدّم حكومة أديب للحريري ما لم يقدمه الرئيس حسان دياب، الذي حافظ له على رجاله، وهو يعرف أن عيون الحريري ورجاله في مجلس الوزراء وأمانته العامة والسراي كانوا يؤدّون مهمة نقل كل ما يدور الى بيت الوسط؟
في الأشهر الأخيرة تخلّص الحريري نهائياً من عبء تحالفاته المسيحية
اليوم لا يمكن للحريري أن يتبرّأ من حكومة أديب، بحسناتها وسيئاتها، كما فعل مسبقاً مع حكومة دياب. فإقليمياً، وضع نفسه من خلال ملاقاته المبادرة الفرنسية في قلب الأزمة مع واشنطن، وزاد من فقدان رصيده أكثر في الرياض. والجو السعودي السلبي ليس موجّهاً حصراً إلى فرنسا، بل تجاه الحريري نفسه الذي يكبر دفتر حساباته فيها، مهما حاول مقرّبون منه نفي أي توتر جديد في العلاقة بينهما، لأن الحريري اختار مرة أخرى فرنسا على المملكة. واختياره هذا، سيضاعف من المحاذير التي قد يلمس نتائجها تباعاً، لأن ما بدأ يرشح من أجوائها لا يبشر بالخير كثيراً تجاهه. لكن الحريري يعلق آمالاً كثيرة على دور باريس، على الاقل، في الحفاظ على موقعه، لأن إطلاق عجلة اقتصادية ومالية، تستفيد منها أيضاً الشركات الفرنسية، قد يكون له فيها دور ما، علماً بأنه في موازاة ما قدم من تسهيلات في تسمية رئيس الحكومة الجديد، قد ضمن لنفسه حصصاً مسبقة في الحكومة وفي الإدارات العامة، وفي كل ما ترسمه الحكومة الجديدة. فأي رئيس حكومة آت من سلك الوظيفة، برعاية دار الفتوى ورؤساء الحكومات السابقين، قادر على أن يقف على مسافة من بيت الوسط (كما من الرئيس نجيب ميقاتي)، أو أن يتخطى رغبات من سمّوه وقدّموه الى العالم بوصفه خليفتهم؟ ففرنسا لن تتدخل في كل شاردة وواردة، ولا في التعيينات أو المحاصصات. وفي أي أزمة سياسية اعتادها لبنان، سيكون الحريري مرجعية أديب. رئيس حكومة الظل، يريد أن يبقى في بيت الوسط. وهو بذلك ضمن أيضاً حسن علاقاته مع بري وحزب الله، بعدما حافظ على موقعه كمرجعية سنية، تمسك بها الثنائي الشيعي في تسمية رئيس الحكومة. ما أنجزه الحريري في الأشهر الأخيرة أنه تخلّص نهائياً من عبء تحالفاته المسيحية، بعدما كرّس طلاقه مع العهد والتيار الوطني الحر والقوات والكتائب. لعل هذا ما كان يريده عام 2005، ومنعته تظاهرات ساحة الشهداء، ولم ينجح في تحقيقه إلا بعد 15 عاماً.