يبحث سعد الحريري عن شهادة حسن سلوك يقدّمها للرياض. يتحدث بلسان الأميركيين حتى تسمعه المملكة. وقد وجد السبيل الوحيد إلى ذلِك، هو أن يقود مواجهة ضد حزب الله في الداخِل، معتبراً أن الظروف الحالية مؤاتية لنجاحه
الرئيس سعد الحريري – يقول المُطلعون على أحواله – مزهوّ بنفسه كثيراً هذه الأيام. وحينَ تأخذه ذروة الزهو، يسأل المقربّين منه عن إعجابهم بأدائه ضد «الثنائي الشيعي»، خاصة حزب الله. على مدى الأيام الماضية، أجرى اتصالات مع «أصدقاء» في الوسط الإعلامي كي يسمَع إطراءً بقدرته على «حشر الحزب في الزاوية». مَن يُراقِب أداءه منذ تكليف الرئيس مصطفى أديب، يعتقِد بأنه عائد من انتصارات إقليمية عظيمة تمتدّ من سوريا إلى اليمن، ليفرض شروطه. فإلى ماذا يستنِد الحريري في معركته الجديدة؟ عينه على مَن؟ وما الذي يؤسّس له؟
منذُ انتفاضة «تشرين»، وعندَ كل مفصل سياسي، تحضر علامات استفهام، يُمكن تلخيصها بالآتي: ما الذي يتهيّبه الحريري، أو من الذي يتهيّبه؟ هناك دوماً طرف خفي خلفَ رئيس تيار «المستقبل»، هو السبب الأساسي الذي يدفعه إلى إعطاء كلمة ومن ثم التراجع عنها، أو سبب آخر يجعله يترّدد في اتخاذ قرار ما، كأن يرفض العودة إلى رئاسة الحكومة وهو يريدها بشدة. تكثر الفرضيات والاقتناعات، من دون إجابة واضحة لدى الحريري.
من المفارقات التي يُمكن ذكرها في سياق الانقلاب الذي ينفذه رئيس تيار المستقبل ضد الثنائي حزب والله وحركة أمل، أن علاقته بالطرفين حافظت على «ثبات» ما، في مقابل تضرر علاقته بحلفائه بعدَ اختطافه في المملكة العربية السعودية عام 2017، وتزعزعها مع التيار الوطني الحرّ منذ إبطال مفعول التسوية الرئاسية. استمرّ التعامل مع الحريري بصفته «الممثل الاول لطائفته، وصاحب الأغلبية فيها نيابياً وشعبياً»، وكونه «صلة وصل سواء مع الإقليم أم دولياً»، والقناة الداخلية لتجنّب أي شكل من أشكال الفتنة. وليسَ سرّاً – وهو ما يجِب التذكير به دوماً – أن الحريري طيلة السنوات الماضية دخلَ في اشتباكات سياسية مع غالبية القوى السياسية، إلا حزب الله. وأبرز تجليات إصراره على عدم خوض نزاع معه، هو قوله من على باب المحكمة الدولية في لاهاي عند إصدار حكمها يوم 18 آب الماضي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ، إنه «لا يريد نزاعاً».
حينَ اختُطِف مثلاً في الرياض، وأُجبِر على الاستقالة، كانَ الثنائي أول من تمسّك بعودته الى البلد وإلى رئاسة الحكومة، وجرى إقناع رئيس الجمهورية بعدم قبولها. كانتَ يومها إرادة الفاعِل الإقليمي (الرياض) إغلاق بيت الحريري السياسي، وكانَ بإمكان حزب الله والرئيس نبيه بري التصرف وفقَ هذه القاعدة من دون أي اعتبار آخر… لكن ذلك لم يحصَل. وحينَ استقال بعد انتفاضة تشرين، لم تنقطع العلاقة بينه وبينَ الثنائي. كانَ هناك إصرار من قِبلهما على عودته أو تكليف من يُسمّيه، قبلَ حكومة الرئيس حسان دياب وبعدها، وقبلَ تكليف مصطفى أديب، وظلّت الاتصالات بينهما قائمة.
ما حصلَ بعدَ ذلِك أن سعد الحريري تحوّل الى شخص آخر، في تعامله مع الثنائي. وقرّر – لسبب ما – أن يكون هو رأس حربة المواجهة مع الحزب، معتبراً أنها الورقة الوحيدة الرابحة في المملكة العربية السعودية، وأن السبيل الوحيد للخروج من دائرة المغضوب عليهم هو عبرَ وضع حزب الله أمام أمر واقِع يُخرجه من الحكومة، عبرَ ما يُسمّى حكومة اختصاصيين. اللافِت هنا، أن الحريري حتى اللحظة مرفوض سعودياً، فيما هو طالب الرضى دوماً. والدليل أن الحريري، قبْلَ تسمية أديب، بعث برسالة موافقة على العودة الى الحكومة، قبلَ أن يتبلّغ الداخل في لبنان من الفرنسيين العدول عن دعمه، بعدَ أن حاولوا إقناع الرياض وواشنطن وفشلوا. منذُ تلكَ اللحظة، دُفِع الحريري إلى الإستدارة نحو ضفة جديدة، بعنوان المداورة واسترجاع وزارة المالية، علماً بأن الحريري نفسه لم يعلن طروحات كهذه على طاولة قصر الصنوبر، أثناء اللقاءات مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بل اقتصرت مداخلاته على موضوع الإصلاحات، ولم يأتِ على ذكر الوزارات من قريب ولا من بعيد.
الحريري يريد تقديم شهادة حسن سلوك للسعوديين والفرنسيين والأميركيين
أكثر ما يثير الاستغراب هو تصرفه كأنه طرف منتصِر. وبينما يؤكّد مقرّبون منه أنه مرتاح جداً لما يفعله، ويعتبر أن موضوع المداورة مدخل جديّ للإصلاح، ولا يعنيه إن كانَ ذلِك سيؤثر على العلاقة مع الثنائي، لكنه «مستمر في المواجهة حتى النهاية».
ويبدو أن الحريري يركُن الى عناصِر ثلاثة ويظّن أنها ستقوده الى النجاح:
أولاً، الأزمة الخانقة التي يعيشها البلد، اقتصادياً ومالياً، والتي تطال جمهور الثنائي كما باقي اللبنانيين، مع كل الحملة التي تُقاد لتحميل الحزب وحلفائه الفساد في «المالية» و«الطاقة» وغيرهما.
ثانياً، المبادرة الفرنسية التي يتعامل معها الحزب بانفتاح رُغم كل التحفظات، مع التسويق لها باعتبارها الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان.
ثالثاً، العقوبات الأميركية، والتي بدأت تطال حلفاء المقاومة، واستهدفت أخيراً النائب علي حسن خليل، أي صلة الوصل بين الحزب والرئيس بري، والوزير السابق يوسف فنيانوس، في ظل الحديث عن أن «هزّ العصا» الأميركية هذه سيطال حلفاء آخرين، كالنائب جبران باسيل. وعليه، فإن ذلِك يمكن أن يؤدي الى تفكيك التحالف المؤيد للمقاومة وخسارة الغالبية النيابية. كل ذلِك يجعل الحزب – في نظر الحريري – محشوراً في الزاوية ومضطراً الى تقديم التنازلات!
لماذا يفعل الحريري ذلِك؟ بحسب المعطيات، باتَ الفرنسيون مقتنعون بأن قرار الحريري ومعه الرئيس فؤاد السنيورة هو عند الأميركيين. الرئيس نجيب ميقاتي حيّد نفسه، فيما الرئيس تمام سلام يكتفي بإعطاء ملاحظاته. لكن العنصر المهمّ في كل ذلِك، أن الحريري يتصرّف على أن حكومة أديب لن تكون حكومة إنقاذية، بل حكومة انتقالية، يُثبّت من خلالها قواعد حكم جديدة (بالنسبة الى شكل الحكومة والوزارات وتوزيعها)، فتُصبِح مقبولة حين يعود هو لتأليف حكومة جديدة، مقدماً بذلك شهادة حسن سلوك للسعوديين والفرنسيين والأميركيين، تصحيحاً لأدائه في كل الفترة الماضية. يظّن الحريري أن الفرصة مؤاتية والطريق الى ما يتطلّع اليه سهلة. أما الثنائي فقد قال كلمته للمعنيين، ليبقى للحريري «أعلى ما في خيله…»!