جاءت وقائع زيارة سعد الحريري لإحياء ذكرى استشهاد والده الرئيس رفيق الحريري مفعمة بالسياسة التي طغت على مجمل استقبالاته، واطلالته التلفزيونية ودردشاته الصحافية ذات المضمون العام. وقد دأب الحريري الابن، الذي لا يزال يغرف من تركة والده السياسية والشعبية، على استثمار الذكرى، لإعادة التأكيد على زعامته دون منازع للطائفة السنيّة وعلى مكانته في الساحة السياسية اللبنانية.
وخلال زيارته الأخيرة أراد الحريري توجيه عدة رسائل للداخل والخارج على حد سواء، وقد تكون الرسالة الأقوى التي اختصر فيها زيارته عندما قال من أمام ضريح الرئيس الشهيد «قولوا للجميع انكم عدتم وانّو البلد ما بيمشي من دونكم، ما بيمشي لأنكم نَبض البلد»، فقد أرادها رسالة يؤكد فيها أنّ «الحريرية السياسية» التي يُراد استبعادها من الساحة السياسية اللبنانية أثبتت بأنها نبض البلد، بشهادة الخصوم قبل الحلفاء، وأنّ أيّة تسوية سياسيّة لن تقوم من دونها، مثبتاً من خلال التجمهر الشعبي والزيارات الوافدة الى دارة الحريري لسفراء اوروبا والولايات المتحدة وللعرب مكانته في الطائفة السنيّة وانّه يشكّل ركناً أساسياً في انتظام الحياة السياسية اللبنانية، وأن مطالبة المجتمع الدولي له آنذاك بإجراء تغيير سياسي في لبنان من خلال العزوف عن خوض الاستحقاق النيابي، لم تكن خطوة صائبة بل تسببت بخلل كبير في المعادلة الوطنية اللبنانية.
ولخصت كلمات الحريري، الذي انسحب من الحياة السياسيّة مطلع العام ٢٠٢٢، «كل شي بوقته» ان مرحلة إنهاء تعليق عمله السياسي لم تحن بعد وقد تتطلب وقتاً إضافياً وظروفاً لم تنضج الى الساعة في ظلّ انسداد الأفق في لبنان والمنطقة، وهو في كلّ حال لا يمكنه العودة الى نشاطه السياسي بالكامل من دون مشروع وازن يحمله الى اللبنانيّين، ومن دون كتلة نيابية مواكبة له في البرلمان أو في حصة وازنة في الحكومة.
في مشهدٍ مُوازي، لوحظ أن «عصبة المقرّبين» كانت موجودة حول الحريري خلال زيارته، ونذّكر أنه في الفترة التي تمكّن فيها هؤلاء من قراره دفعوا به الى الهاوية، وخصوصاً أنهم كانوا أصحاب نظرية ربط النزاع مع إيران وتوتير العلاقات مع الخليج، وعرّابي التنازلات التي أثبتت الأيام أنّها أضرّت بالحريري وبالطائفة السنيّة وبالبلد، وقاموا بعقد الصفقات الفاحشة المريبة المشبوهة. وهم ايضاً من نصحوه باستبعاد بعض صقور «تيار المستقبل» المُحنّكين الذين وقفوا ضدّ التسوية الرئاسية المشؤومة من داخل صفوف «تيار المستقبل».
في الخلاصة، أراد سعد الحريري «المُعتكف» أن يثبت أنه «الزعيم»، لكنه في المقابل سيُلدغ من الجّحر مرّات عدّة في حال بقاء بطانة السوء لصيقة به، وقد لا يتمكّن حينها من دفع أثمان الهفوات التي قد تطوي مسيرته السياسيّة الى دون عودة، وبأسوأ السيناريوهات.