أن يُعلن الرئيس سعد الحريري أنه مرشح لرئاسة الحكومة «من دون جْميلِة حَدا»، وأنه مرشح «طبيعي وحكماً» لهذا الموقع الدستوري بعد أشهر من التردد، فذلك دليل كبير على أنّ هذا الترشيح يحظى بتشجيع ودعم إقليمي ودولي، وتحديداً خليجي ـ أوروبي ـ أميركي، ويدلّ أيضاً الى انّ ما كان يواجهه الحريري من «فيتوات» تمنعه من العودة الى السرايا الحكوميي قد زالت.
وهذا الدعم الدولي اعترف به الحريري لزملائه في نادي رؤساء الحكومة السابقين (نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام)، عندما التقاهم مساء امس الاول في «بيت الوسط»، فما كان منهم إلّا ان أيّدوا ترشيحه لرئاسة الحكومة بلا نقاش، متمنّين له التوفيق.
لكنّ حكاية عودة الحريري المنتظرة الى السرايا الحكومية بدأت، وفق مرجع سياسي بارز، على أثر التوصّل الى «الاتفاق ـ الاطار» الخاص بالمفاوضات المتعلقة بترسيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان واسرائيل، والذي رحّبت به الولايات المتحدة الاميركية واعتبرته «اتفاقاً تاريخياً»، بحسب تعبير وزير خارجيتها مايك بومبيو. فعلى أثر إعلان هذا الاتفاق في بيروت وتل ابيب وفي واشنطن وباريس، حصل تواصل بين الادارتين الاميركية والفرنسية تَناولَ الأزمة اللبنانية وما آلَ إليه مصير المبادرة الفرنسية الهادفة الى معالجتها، وذلك في ضوء اعتذار الرئيس المكلف مصطفى اديب الذي كان من أبرز عناوين هذه المبادرة، فطلبَ الجانب الاميركي من الجانب الفرنسي تنشيط مبادرته التي كانت قد دخلت في جمود ظَنّ مَعهُ كثيرون أنها أُجهِضت. فرحّبَ الجانب الفرنسي بهذا التشجيع الاميركي، إلا أنه طلب من واشنطن تَدخّلاً لدى القيادة السعودية لِرفع ما كان يسمّيه البعض «الفيتو» او «الاعتراض» على عودة الحريري الى السرايا الحكومية، وذلك لاعتقاد المسؤولين الفرنسيين انّ الادارة الاميركية هي الأقدر على إقناع المسؤولين السعوديين بهذا الامر نظراً للعلاقة الاستراتيجية التي تربط بين الجانبين، علماً أن لا باريس ولا الرياض نَفتا بعد اعتذار أديب ما نُشِر من أنّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون اتصل بولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، وتقاطعا على ضرورة عودة الحريري الى رئاسة الحكومة لأنّ المرحلة تقتضي هذا الامر، وكان اللافت يومها أنّ مَن أورد هذا الخبر كانت قناة RT الروسية، منسوباً الى «مصادر مطلعة».
وفي هذا السياق، يذكر المرجع نفسه انّ الجانب الفرنسي تبلّغَ من الاميركيين انّ الموقف السعودي كان مَرناً عند مُفاتحة الرياض بعودة الحريري الى رئاسة الحكومة، وانّ في إمكان باريس ان تتصرف على اساس انه لم يعد هناك من اعتراض سعودي في المطلق على هذه العودة الحريرية.
كل هذه المعطيات التي تجمّعت لديه، معطوفة على مجموعة اتصالات داخلية وخارجية تلقّاها، دفعت الحريري الى إعلان ترشيحه مُتلفزاً ومشحوناً بمواقف، منها ما يتعلق بالحيثيات التي أملَت عليه ترشيح نفسه، وطبيعة الحكومة التي يرغب بتشكيلها في حال تَسميته ضمن إطار المبادرة الفرنسية وما تضمّنته من نصوص حول مواصفاتها ونوعية وزرائها، وكذلك حول برنامجها الذي سيكون الاصلاحات التي حددتها المبادرة وسيكون البيان الوزاري للحكومة العتيدة، بحسب الحريري.
امّا المواقف الانتقادية التي أعلنها الحريري، والذي كان بعضها قاسياً في حق بعض القوى السياسية الاساسية الحليفة له او التي تسود بينه وبينها خصومة، فيبدو انها كانت لازمة من اللوزام السياسية التي وَجَد الرجل انه لا بد منها لتظهير ترشيحه بخلفية داخلية الى جانب الخلفية الاقليمية ـ الدولية.
ولذلك، فإنّ المشاورات التي بدأها الحريري انطلاقاً من لقائه بدايةً رؤساء الحكومات السابقين، ثم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، والتي سيستكملها اليوم وغداً الفاصلَين عن موعد استشارات التكليف المقررة بعد غد الخميس، هي استشارات مُسبقة لتأليف الحكومة مثلما تَستبق تكليفه تأليفها، وكذلك تستبق المشاورات النيابية والسياسية التي سيجريها بعد تكليفه، ما جعل استشارات التكليف والتأليف الدستورية المنتظرة شكلية وإسماً على مسمّى.
في اعتقاد هذا المرجع انّ على الحريري ألّا يصرّ على الربط بين الاصلاحات والمبادرة الفرنسية، بل عليه ان يعمل على فك الارتباط بينهما، لأنّ الكتل والقوى السياسية موافقة على المبادرة في المبدأ، ولكنها ترغب في مناقشة بعض التفاصيل فيها، وهذا الامر سوف يظهر بعد ايام. من ذلك انّ المبادرة، وفق ما قاله ماكرون في قصر الصنوبر، تدعو الى تشكيل حكومة اختصاصيين تدعمها القوى السياسية وليس بمعزل عن هذه القوى، وإن كان بعضها مُتّهم بالتورّط في الفساد الذي تقوم عليه القيامة الشعبية ولن تقعد.
ومن الواضح انّ عنوان أو هدف المشاورات التي يجريها الحريري حالياً، تمهيداً للتكليف والتأليف، هو التأكد من مدى التزام القوى والكتل السياسية والنيابية التي شاركت في اجتماعَي قصر الصنوبر مع ماكرون بالمبادرة الفرنسية التي ستكون برنامج الحكومة وخريطة طريقها الى معالجة الازمة بشقوقها السياسية والمالية والاقتصادية. ويعتقد الحريري انّ هذه المشاورات ربما ستساعده في تأليف الحكومة سريعاً، لمُلاقاة ما تُعدّه باريس من مؤتمرات سياسية ودولية لدعم لبنان، فضلاً عن مواكبة المفاوضات المتعلقة بترسيم الحدود البحرية والبرية، لأنّ إنجاز مثل هذا الترسيم وتأمين حقوق لبنان كاملة من شأنهما أن يتيحا للدولة استخراج ثروتها الغازية والنفطية لإطفاء ديونها والتعافي اقتصادياً ومالياً.
ويعتقد سياسيون مطلعون على بعض خلفيات المشهد السياسي، الذي استجَدّ بترشيح الحريري، انّ الجميع حريص هذه المرة على تأليف حكومة حتى ولو اقتضى الامر منهم تقديم تنازلات، لأنه في حال الفشل ووصول الحريري (او حتى غيره) الى الاعتذار، فإنّ العهد سيسقط، وانّ المفاوضات لترسيم الحدود ستنتهي، وانّ الجانب الاميركي سيفرض عقوبات على أي طرف سيُعَطّل المبادرة الفرنسية او يعرقل تأليف الحكومة. علماً أنّ الاميركيين تَعهّدوا للجانب الفرنسي، في الآونة الاخيرة، بتعليق هذه العقوبات او إيقافها لتسهيل تأليف الحكومة وتمكين مبادرة ماكرون من الوصول الى خواتيمها المطلوبة، وكان ماكرون قد اعترف من قصر الصنوبر بأنّ هذه العقوبات (التي طاوَلت الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس) وَتّرَت الاجواء اللبنانية، وكانت من اسباب فشل الدكتور مصطفى اديب في تأليف حكومته.
ولذلك، فإنّ الحكومة العتيدة ستَلد على الأرجح بعد مخاض من التنازلات المتبادلة التي سيقدّمها الجميع… وإلّا سيكون لبنان مهدداً بالزوال، بحسب ما حَذّر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان.