Site icon IMLebanon

ما المقصود بحديث سعد الحريري عن المزايدين؟

 

 

«وما الحرب إلّا ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المُرَجّم

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة

وتضرّ إذا ضَرّيتموها فتُضرَم

فتعرككم عرك الرحى بثفالها

وتلقح كشافاً ثم تنتج فتتأم»

– زهير بن أبي سلمى

إنّ التاريخ عند فريدريش هيغل حركة منطقيّة سمّاها بالجدليّة، أو الدياليكتيك كما يحبّ الرفاق القدامى تسميتها، أياّم عز التفلسف الماركسي. التاريخ إذاً هو ،بحسب هيغل، في الغالب سلسلة من الثورات، تستخدم فيها الشعوب إثر الشعوب والعباقرة إثر العباقرة أدوات في تحقيق النموّ والتطوّر، وبحسب نظرية هيغل اليوتوبية أو المثالية فإنّ الحركة الجدلية في التاريخ تسير في اتجاه المزيد من الحرية. إنّ هذه العمليّة في سير التاريخ تجعل من التغيير مبدأ الحياة الأساسيّ، إذ لا شيء خالد، وفي كلّ مرحلة من مراحل التاريخ يوجد تناقض وتعارض لا يقوى على حلّه سوى صراع الأضداد والتاريخ هو نموّ نحو الحريّة وتطوّره. نظرة هيغل تجاه قضيّة الحرب والسلام غريبة نوعاً ما، وتحتاج إلى قدر من التأمّل، فهو يرى ضرورة وأهميّة وجود الحروب بين الشعوب. وإذا كان فلاسفة القرن الثامن عشر قد دافعوا عن ضرورة السلام بين الشعوب، فإنّ هيغل لا يجد غضاضة في القول: إنّ الحرب حال ضروريّة بين الشعوب، وانّها تؤدي دوراً كبيراً في تاريخها، فالحرب تحرّك حياة الشعوب ولا تجعلها تتكاسل وتستكين، إنّها في نظره دليل على الصحّة وسلامة الأخلاق، وبدون الحروب تفقد الشعوب تدريجاً معنى الحرّيّة، وتتمسّك بالحياة المادّيّة وحدها، وإذا عاشت الشعوب في سلام زمناً طويلاً فإنّها تفقد حياتها ووجودها، فالرياح التي تهبّ فوق مياه البحيرة تحفظها من الركود والتعَفّن.

 

ليس من الضروري الموافقة على كلام هيغل بضرورة الحرب، ولكن لو نظرنا إلى المتغيرات الكبرى في التاريخ، ومن ضمنها زوال شعوب وممالك، وظهور دول وأعراق لها وزنها في التاريخ، لرأينا أنّ هذا الكلام دقيق، مع بعض التحفّظ حتى لا نتّهَم بأننا من دعاة الحروب. فالسلام والدعوة إلى الجدلية السلمية قد يكون خياراً لذوي الالباب الذين يعرفون «إذا جنحوا للسلم فاجنح لها…». فما يميّز البشر هو أنه هناك دائماً خيار آخر، لا بل خيارات أخرى عندما يُمعن التفكير من يتفكّرون، أو يملكون في ملكة العقل ما هو غير الحرب للوصول إلى الأفضل. الإشكال يقع عندما يأتي من ليس يملك إلّا السلاح والحرب لإقناع الآخر بوجهة نظره. وهذا مثلاً ما فعله المغول في القرن الثالث عشر الذين اجتاحوا معظم العالم المعروف فيه، يوم كانت وسيلة الإقناع بالخضوع عندهم هي الموت والدمار.

 

ماذا يعني هذا الكلام، ففي مقابلة سعد الحريري الأسبوع الماضي تحدّث عن المُزايدين، وهم في الطائفة السنية، بعضهم من المقيمين، وآخرون في المهجر، يتحدثون عن التفريط بحقوق الطائفة، وأكثرهم لا يعطون أمثلة جدية. لكن، لنفرض أنّ بعض الحديث صحيح، وأنّ التسويات التي لجأ إليها الحريري، الأب ومن بعده الابن، كانت من كيس صلاحيات رئيس الحكومة! وهي بالنهاية مسألة مرتبطة بكيفية تأمين إطار دستوري للاستقرار، ومن واجب مَن هو في موقع المسؤولية أن يسعى إلى الاجتهاد بكيفية تأمين الاستقرار. هذا بالضبط ما فعله الحريريّان، ولم يخترع الحريري الابن نهجاً خاصاً غير الذي اتّبعه والده، ودفعَ حياته ثمناً له، وهو دراسة الوقائع على الأرض، ومن ثم البناء على أساسها. الآخرون المزايدون، بعضهم قد يكون صادقاً بمسعاه في المطالبة بتصحيح الخلل الوطني، لكنهم لن يدخلوا في التجربة في المسؤولية، فبقيت طروحاتهم مجرد نظريات مبنية على إزاحة الحالي والمغامرة بشيء غير مجَرّب. يعني مبدأ تدمير الواقع وإبداله بمجهول. وقد يصح المجهول بضربة حظ أحياناً، لكنّ مصائر الناس لا يمكن أن تبنى على الحظ، بل على ما هو مجرّب لتفادي الوقوع به إن كان مخطئاً، أو تكراره مع التحسينات إن أصاب. أمّا المزايدون الآخرون، فهم من يتحدث عن المواجهة لاستعادة الحقوق المسلوبة، ولا أريد أن أدخل في خلفيات هؤلاء، فلكلّ منهم أسبابه وأهدافه، بعضها محلي، وبعضها الآخر عابِر للحدود. وعند الحديث عن المواجهة مع تنظيم مسلّح وكيفية إدارته، قد ينبري البعض إلى استلال السيف والقسم على الشهادة أو النصر، أو ربما يردد البعض «هيهات منّا الذلة»، لكنّ المصيبة هي عند بحث التفاصيل. هنا كانت تبدأ الاقتراحات الخنفشارية، والطروحات الأسطورية، والفرضيات التي لا تحتاج إلى إثبات، كونها، برأي قائلها بديهية، وما هو بديهي لا يحتاج لإثبات، أي حلقة مفرغة من الجدل السفسطائي الطابع!

 

لكنّ الواقع هو أنه، من يوم أن تدهورت الثورة السورية من كونها ثورة لاستعادة كرامة المواطن المنتفِض سلميّاً، لتتحول إلى صراع مسلح تحت شعارات مذهبية وطائفية، حَلّت الكارثة على الشعب السوري. هذا الشعب المنكوب بعشرات الأضعاف بالمقارنة مع نكبة الفلسطينيين، كان يظنّ أنّ العالم كله سيَهبّ لدعمه ودعم مطالبه، ومن ثم الحصول على حريته في دولة يحكمها القانون لا الديكتاتور، ويتساوى فيها الناس في المواطنة، لا في التوجّه في الإيمان. هذا مع العلم أنّ الرغبة بالتغيير كانت تحمل بعداً طائفياً مذهبياً. لكن لو دخل العالم المدّعي الحفاظ على حقوق الإنسان، ومن ثم فرض حلاً مبكراً بقوّة القوة، وليس بالتفرّج، لكان ربما السوريون اليوم يعيشون في ديار بناها آباؤهم وأجدادهم، قبل أن يعيث بها ورثة هولاكو، من ميليشيات مذهبية شيعية وداعشية ونصراوية سنية وميليشيا بشار العلوية، شركة وبالتضامن والتكافل، دماراً وخراباً وموتاً. لكنّ الأهم اليوم هو ما تحدّث عنه سعد الحريري، أي أنّ ثلاثة أرباع السُنّة في سوريا أصبحوا مهجّرين بعيداً عن ديارهم التي عاشوا فيها منذ أيام هولاكو، وأنّ هؤلاء الذين راهنوا على نخوة العرب والعجم والإخوة في الدين، أصبحوا اليوم، إمّا شهداء تحت ركام منازلهم التي دمّرتها طائرات روسية، أو براميل متفجرة أسدية، أو صواريخ إيرانية. والباقون لاجئون في ديار ليست ديارهم، يتقاذفهم اخوة الدين واخوة الإنسانية من مكان لآخر، بعد أن تقاذفتهم الأمواج في البحر إلى المجهول.

 

هذا ما قاله سعد الحريري لِمن فاته الفهم أو الاستماع، وقال أيضاً: من أراد أمير حرب ليقوده، فليبحث عن غير سعد الحريري، فهو، كما والده، لن يقبل أن يُحمّل ضميره نقطة دم واحدة من دماء الأبرياء.

 

صحيح أنّ هيغل أكّد أنّ الحرب هي وحدها القادرة على إحداث الفرق، لكن من ذهب إليها من دون عدة سيسقط ضحية لها بالمجان.