لا تفسير منطقياً لاندفاعة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري تجاه السراي الحكومي، إلا بكونه نال قسطاً لا بأس به من الدعم الدولي الذي يسمح له بتجاوز حاجز الممانعة الخارجي الذي يحول دون عودته إلى الرئاسة الثالثة. فهو ليس من الصنف الانتحاري وليس في وارد رمي نفسه بالنار، بلا أي حماية. ولو كان كذلك لفعلها منذ زمن، ولم ينتظر حوالى اثني عشر شهراً كي يعود إلى واجهة الترشيحات لرئاسة الحكومة.
ومع ذلك، يجزم بعض عارفيه أنّ ما يقوم به يعود الى كونه آخر الخيارات المتاحة. حتى أن الفرنسيين يتصرفون على طريقة الحياد الايجابي، ويبلغون المتصلين بهم أنّهم لن يتدخلوا إلّا في حال قرر اللبنانيون التحرك بشكل بناء لإعادة إحياء مبادرتهم. لكنهم لن يورطوا أنفسهم ويكرروا تجربة الجولة الماضية بالتدخل في التفاصيل، خصوصاً اذا لم تكن مضمونة نسبياً.
عشية الذكرى السنوية الأولى لقيام انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول، يفترض أن يعود الحريري إلى السراي مكلفاً، ولو أنّ التأليف لا يزال غير مضمون. لا يهمه عدد الأصوات التي سينالها ولا الهوية الطائفية للنواب الذين سيبلغون رئيس الجمهورية ميشال عون أنّهم يضعون اسم سعد الحريري في الصندوقة. كل ما يعنيه في الوقت الراهن، هو “ضب” التكليف في جيبه ومن بعدها لكل حادث حديث.
حتى ساعات الظهر، كانت الأنظار موجهّة إلى قصر بعبدا: هل ينهي رئيس الجمهورية الجولة الأولى من المشاورات غير الرسمية على تأجيل لموعد الاستشارات الملزمة؟ وهل يأتي التمني من جانب الرئاسة الثانية كما كانت تأمل الرئاسة الأولى؟
الجواب أتى سريعاً من عين التينة: “كتلة التنمية والتحرير” تعلن بصريح العبارة أنها “ستشارك بالاستشارات النيابية الملزمة، وستُعلن اسم مرشّحها لرئاسة الحكومة كما جرت العادة بعد الانتهاء من اللقاء مع رئيس الجمهورية”. اذاً، لا نيّة للرئاسة الثانية في المبادرة إلى الدفع نحو التأجيل، لتترك الطابة في ملعب رئيس الجمهورية الذي دفع الاستحقاق إلى الأسبوع المقبل.
أكثر من ذلك، كل ما تسرب خلال ساعات النهار من محيط رئيس “تيار المستقبل” كان يشي بأنّ الرجل على استعداد لمواجهة لحظة الحسم. المفارقة، أنه أبلغ من يعنيهم الأمر أنّه سيكتفي بما سيناله من أصوات. غرّد مستشاره الاعلامي الزميل حسين الوجه قائلاً: “الاستشارات النيابية الملزمة استحقاق دستوري بالغ الأهمية في حياتنا الوطنية، ونواب “كتلة المستقبل” سيكونون اول المشاركين فيه، لانه الخطوة الاولى في اي محاولة لوقف الانهيار وإعادة إعمار بيروت”.
كل ذلك، بعد ساعات معدودة من انتهاء الخطاب الناري الذي ألقاه رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل في ذكرى 13 تشرين الأول، ليعود ويكرر فيه رفضه ترؤس الحريري حكومة اختصاصيين تحت عنوان أنّ حكومة من هذه القماشة يجب أن يكون في مقدمها رئيس من الطبيعة ذاتها.
بعده بساعات، كان رئيس حزب “القوات” سمير جعجع يعلن بدوره دعمه للمبادرة الفرنسية “لأننا بأمس الحاجة لحكومة انقاذ وحكومة مهمة محددة، ولا يمكن الا أن تكون بشكل معين ونحن لن نقبل الا بحكومة إنقاذية فعلية”، معلناً أنه “رغم صداقتنا مع سعد الحريري لن نسميه الى رئاسة الحكومة ولن نسمّي أحداً لأنه لا يوجد أحد لديه المواصفات المطلوبة”. ما يعني أنّ تكليف الحريري سيكون منزوع الدسم المسيحي كون “تكتل لبنان القوي” أكد عدم السير في خيار الحريري الذي قد يكتفي بنحو 15 نائباً مسيحياً سيمنحونه أصواتهم.
ولعل هذه الثغرة التي أحدثتها “القوات” في جدار التصويت، تركت مطرحاً للرجعة من العلاقة المتوترة مع الحريري. اذ على خلاف الجولتين السابقتين، أي عشية تسمية حسان دياب ومصطفى أديب، اختارت “القوات” هذه المرة الورقة البيضاء كخيار حياديّ، ولم تمنح نواف سلام أصوات كتلتها، بشكل يجنّب الحريري اختبار “سكور الخصومة” المحرج.
هكذا، صبّ الحريري مجهوده يوم أمس على كلمينصو لكي لا يُعرّى من الصوت الدرزي أيضاً. لكن الاشكالية المستجدة مع رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، بقيت تحت سقف المبادرة الفرنسية التي يحرص زعيم المختارة على عدم نسفها، ولهذا كان من السهل أن يعيد الاتصال بين الحليفين السابقين، الحرارة إلى العلاقة التي تأزمت أكثر حين تعامل الحريري مع صديقه العتيق بمنطق التجاهل، لحظة قرر تمييز الرئيسين عون وبري بلقاء “وجهاً لوجه”. ولهذا انتهى الاجتماع الذي عقده “اللقاء الديموقراطي” إلى السير من جديد بخيار الحريري رئيساً للحكومة.