يسعى الرئيس سعد الحريري للدخول الى السراي الحكومي قبل الانتخابات الأميركية. أن يكون رئيساً للحكومة محصّناً بحكومة متكاملة وقوة دفع إعلامية وسياسية، تجعلانه في موقع الأقوى ممّا هو عليه خارجها، منتظراً ما ستؤول اليه مبادرات أي إدارة جديدة تجاه الشرق الاوسط، من دون القفز فوقه عند حصول أي ترتيبات. هذا لا يعني أن واشنطن هي التي تستعجل التأليف أو تعير اهتماماً لتوزع الحقائب. وحدهم اللبنانيون يحددون مواعيدهم وفق الروزنامة الاميركية.
في المقابل، لا يستعجل حزب الله والتيار الوطني الحر إعطاء الحريري ما يريد، إن لم يتمهلا في تأخير هذا الوصول الى ما بعد 3 تشرين، من دون أن يعني ذلك أن الحزب يرغب في استبعاد الرئيس المكلف، لكنه أيضاً ينظر اليه خارج السراي، بغير نظرته اليه داخلها، ربطاً بنتائج الانتخابات الاميركية. فرغبة الحريري المزمنة في العودة معروفة ولا تحتمل أي تأويلات، لذا يصبح لزاماً على الحريري تقديم مزيد من التنازلات، التي يصرّ الطرفان على الحصول عليها، والرئيس المكلف مستعد لتقديمها، ما سينعكس في توزيع الحصص والوزارات وتخليه عن لائحة الشروط والمطالب التي كان وضعها للرئيس المعتذر مصطفى أديب. كل ما سيرغب فيه الحزب سيحصل عليه، إن لتعزيز حصته أو لضمان حصص حلفائه. وسيخرج الحريري حينها ليبرر مواقفه كما برر إعطاء وزارة المالية لمرة واحدة فقط. فلماذا يريد الحريري العودة بأي ثمن الى الحكومة، مع أن الانهيار واقع لا محالة، كما هو إفلاس الدولة واللبنانيين على السواء، واستحالة وجود أي طريق للإنقاذ؟
يمكن الكلام عن رغبة الحريري والتيار الوطني في العودة الى الحكومة على اعتبار أنها حكومة السنتين الأخيرتين من عهد الرئيس ميشال عون، واحتمال أن تكون هي الحكومة التي تتسلم زمام البلد بعد الفراغ الرئاسي. ومع ذلك، فإن هذا الاحتمال لم يدفع مثلاً القوات اللبنانية الى تقديم أي تسوية للدخول اليها، مفضلة البقاء خارجها. وقد تكون القوات هذه المرة تغامر في الطريق الصحيح، إذ من يضمن بقاء هذه الحكومة سنتين، في موازاة استمرار الانهيار الداخلي؟ ومن يتوقع الإنقاذ ما دام منطلق التسوية قد بُني على الباطل ذاته الذي بُنيت عليه التسويات الحكومية والمناهج الاقتصادية والمالية نفسها؟ وأي إنقاذ يمكن أن يحمله الحريري الى لبنان، حين تشي الوقائع العملية والسياسية الدولية بغير ذلك؟
سياسياً، باتت باريس، بحسب دوائر مطلعة، أقرب الى التخلي عن مبادرتها التي لم يتبقّ منها عملياً أي شيء. كل ما يعني فرنسا، حالياً، هو المساهمة في تأمين بعض المساعدات، وهو أمر بات في دائرة الاهتمام الأساسية، ومن ضمن الأولويات، كإدارة ومؤسسات إنسانية واجتماعية. وليس انشغال فرنسا بأوضاعها الداخلية السبب وراء موقفها، بل ثبوت عقم السياسيين اللبنانيين في مقاربة حلول بديهية للإنقاذ، بعد مرور ثلاثة أشهر من انفجار المرفأ، الذي أدار محركات التدخل الفرنسي. واشنطن من ناحيتها ليست مهتمة بأبعد من إمكان ترتيب تسوية بينها وبين خصومها في المنطقة ولبنان، لتحقيق مصالحها، بدءاً من ترسيم الحدود، وصولاً الى أي تفاهم إقليمي. وهذا يعني أن الاهتمام الاميركي بمجيء الحريري يعادل تماماً اهتمامها بمجيء الرئيس حسان دياب، لا أكثر ولا أقل. أما السعودية، وبخلاف كل ما يحاول المحيطون بالحريري الترويج له، فلا تزال على موقفها المتخلي عن التدخل في لبنان وفي شؤون رئاسة الحكومة تحديداً.
عملياً، بات الحريري يخشى حقيقة وجوده خارج الحكم، لأن أي انهيار مفترض ومتوقع وهو خارج السراي من دون عدة الشغل، من أمن وقضاء وسلطة، يعني أنه سيكون أسير بيت الوسط، من دون غطاء، في حين أن وجوده داخلها معززاً بكل أدواته السلطوية، ولا سيما منها الأمنية، يجعله حكماً في منأى عن أي ردّ فعل يطاله كما يطال غيره ممّن هم داخل الحكم.
قبل سنة من الآن، رضخ الحريري لضغط الشارع، بعدما أربكه عنصر المفاجأة، في الحشد الذي تدافع الى ساحة الشهداء، كما أربك الطبقة الحاكمة. لكن انفراط عقد الانتفاضة بعد سنة، وتموضع بعض من شارك فيها في اصطفافات سياسية وشخصية، أعطى الحريري جرعة دعم في استعادة أنفاسه، وتنشيط بعض المحيطين به، علماً بأن الوضع الاقتصادي والمالي أصبح أكثر خطورة وحدّة مما كان عليه قبل سنة من الآن. كل ذلك يترافق مع انهيار القطاع الصحي والمعيشي، وغياب، بات مسلماً به، لأي محاولة إنقاذ جدية للوضع، لا بل العكس تماماً، كما تدل عليه بهلوانيات مصرف لبنان وحاكمه بالتنسيق مع الحريري في موضوع انخفاض سعر الدولار والاستمرار في سياسة إفلاس الدولة وبيع أصولها والتهديد اليومي برفع الدعم وقطع الكهرباء. والحريري يفترض أن يكون مدركاً أن انحدار اللبنانيين نحو الفقر، وتدحرج الوضع نحو الأسوأ، سينعكس على الوضع الميداني المرجّح للتفلت الأمني التدريجي. ولن يكون بمقدوره، مهما استفاد من انهيار سعر الليرة والإمساك بقادة أحياء شعبية، كما فعل أخيراً، أن يضبط شوارع يعمل فيها الفقر ويتصاعد انعكاسه على أكبر شريحة من اللبنانيين. وهذا يعيده الى ضرورة التحصّن بالسراي الحكومي، كما يتحصّن شركاؤه في التسوية الحكومية، في مرحلة وعي اللبنانيين حقيقة أنهم باتوا فقراء، وأن هناك منظومة سياسية ومصرفية متكاملة منذ التسعينيات أوصلتهم الى هذه الحالة.