تُراوح أجواء عملية تأليف الحكومة، في القصر الجمهوري في بعبدا وفي «بيت الوسط»، بين الصمت أو تأكيد «الإيجابية» في البيانات والتصريحات الإعلامية الرسمية، فيما مسار التأليف يَعتريه كثير من «السلبية» والعراقيل والشروط والشروط المضادة، ولو كان الواقع عكس ذلك لكانت الحكومة أبصرت النور قبل أن ينقضي 23 يوماً على تكليف الحريري، ولَما كان هناك من داعٍ لقدوم موفد للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لاستطلاع أسباب تأخّر الولادة الحكومية.
هذا التعثر في التأليف يأتي بعد فشل السفير مصطفى أديب في تأليف حكومة الاختصاصيين المطلوبة بسبب شروط بعض الأفرقاء السياسيين الواضحة والمعروفة لدى الجميع، أكانت مُعلنة أو مضمرة. هذا المسار، يدفع البعض الى السؤال: «لماذا وَرّط الحريري نفسه؟ هل سيجتاز مهمة التأليف؟ وهل ينجح في إخراج لبنان من ورطته؟».
كالعادة، يُحمّل كلّ طرف سياسي معنيّ بالتأليف مسؤولية التأخير بهذه العملية للأفرقاء الآخرين. وفيما يتضح أنّ هناك «محاصصة» وتقاسماً في المقاعد الوزارية، بحسب ما يشير المعنيون أنفسهم، تسأل جهات سياسية: «إذا نجح الحريري في التأليف ونالت حكومته ثقة مجلس النواب، من يضمن أن لا يستمر نهج المحاصصة الى ما بعد التأليف، ويعود جميع الأفرقاء الى اللعبة القديمة نفسها على طاولة مجلس الوزراء، إذا كانوا هم من سيسمّون الوزراء الاختصاصيين أو يوافقون عليهم؟».
في القصر الجمهوري و»بيت الوسط» تأكيد على أنّ العمل جارٍ لتأليف حكومة من اختصاصيين لا حزبيين، بمعزل عن الاختلاف بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والحريري على تسمية الوزراء، أو غيرها من خطوات التأليف. وتقول مصادر «بيت الوسط»، رداً على انتقاد البعض المُحاصصة في التأليف، وبالتالي العمل خارج إطار المبادرة الفرنسية التي تقتضي الإتيان بـ»حكومة مهمة» من اختصاصيين مستقلين، إنّ «الحريري يعمل مع رئيس الجمهورية على تأليف حكومة اختصاصيين غير حزبيين ولا شيء بعد خارج الموافقة على تَولّي شيعي وزارة المال»، مشيرةً، على سبيل المثال، الى أنّ قيادتَي «الحزب التقدمي الاشتراكي» وتيار «المرده» أعلنتا أن لا تواصل معهما حول الحقائب الوزارية.
إلّا أنّ جهات سياسية معارضة ترى أنّ الحريري «تَورّط» في مراهنته مجدداً على عون ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل وفريق 8 آذار، وأنّ «باب هذه الورطة كان فَرض «الثنائي الشيعي» تَولّي شيعي وزارة المال فضلاً عن تسميته الوزراء الشيعة في الحكومة، فَكَرّت السُبحة». في المقابل، تعتبر جهات معارضة أخرى أنّ «الحريري وَرّط نفسه عن سابق تصوّر وتصميم، فهو يريد العودة الى السرايا الحكومية بعد أن خرج من السلطة على وَقع ضغط «ثورة 17 تشرين الأول 2019»، ولقد رَضي بما كان هو ورؤساء الحكومات السابقين قد منعوا أديب من القبول به، فتخطّى الحريري السقف الذي كان ساهم في وضعه على مسار أديب في التأليف، وهذا لأنّه يبحث بدوره عن إنقاذ شعبيته وعلاقاته الخارجية، من خلال موقع رئاسة الحكومة ومحاولته إظهار أنّه أنقذ البلد أو ساهَم في فرملة الانهيار أو جَلب مساعدات فرنسية توقِف البلد على رجليه، خصوصاً بعد أن كانت تجربته خارج السرايا طوال عام غير مثمرة على المستويات كلّها، السياسية والشعبية».
في المقابل، تقول مصادر تيار «المستقبل» إنّ «الحريري لا يمثّل دور الكاميكازي، بل هو فعلاً انتحاري في سبيل إنقاذ البلد»، مشيرةً الى أنّه «قرّر أن يحاول، وربما قد تكون محاولته الأخيرة لوقف التدهور والتفكك في البلد». وتقول: «في حال عدم تأليف حكومة قادرة على الإنقاذ، سنقع عملياً في واقع التفكّك في بضعة أسابيع»، مُذكّرة بأنّ احتياط المصرف المركزي بالكاد يكفي لأسابيع قبل رفع الدعم عن المواد الأساسية، من الطحين والمحروقات والدواء. وعلى سبيل المثال، تسأل: «هل سيتمكّن العسكري في الجيش اللبناني أو العنصر في قوى الأمن مِن ملء سيارته بالوقود بعد رفع الدعم؟ وبالتالي هل سيذهب الى عمله وخدمته أم يمتنع عن ذلك؟». ويأتي هذا السؤال للدلالة على الفوضى التي قد يدخل فيها البلد إذا توقّف دعم مصرف لبنان للمواد الحياتية الرئيسية.
أمّا لجهة ما يَرشَح عن تأليف «حكومة محاصصة»، وعمّا إذا كانت حكومة كهذه ستنال رضا الخارج والداخل وتتمكّن من الإنجاز؟ تؤكد المصادر نفسها أنّ «الأساس تأليف حكومة يمكنها التفاوض مع صندوق النقد الدولي». وتشير الى أنّ «الحريري كان أمام مسارين، إمّا المحاولة بما وَجدَ بين يديه وبقدر الإمكان لأن تكون الحكومة من اختصاصيين بالنسبة الى الواقع القائم في لبنان، أو أن يتفرّج وينتظر من دون أن يفعل شيئاً، فاختار المسار الأول».
وفي حين تنتقد جهات سياسية معارضة الحريري على دخوله في «تسوية» مجدداً مع «حزب الله»، وتعتبر أنّ هذا الأمر أدى الى «تَجاهل خليجيّ» للبنان وعدم بروز أي خطوة إيجابية خليجية تشير الى «رضا على مسار الحريري»، تقول أوساط «بيت الوسط»: «فلننتظر الى ما بعد التأليف».
من جهتها، لا تنكر مصادر «المستقبل» أنّ «لبنان معزول فعلاً، وسبب هذه العزلة سياسي، وهو الاصرار على بقاء الميليشيات المسلحة التابعة لإيران، ودعمها من بعض السياسيين، مثل عون وباسيل». وتقول: «هذا الخيار إشكالية كبيرة. نحن نتصرّف على أساس أنّ هذا أمر واقع موجود، وأنّ الطريق الوحيد لوقف الانهيار الآن هو أن نتفاوض مع صندوق النقد الدولي، في انتظار أن تتغير الحالة السياسية».
وعن «مخاطرة» الحريري بقبول مهمة التكليف على رغم علمه المسبق بالمطالب السياسية و»الشروط المحاصصاتية»، وطريقة مواجهتها وخروجه من هذه «الورطة» إن خلال التأليف أو بعده، تشير المصادر نفسها الى أنّ الحريري «يحمل مشروعاً إصلاحياً واضحاً منطلقاً من الورقة الفرنسية، وسيقدّم تشكيلته الوزارية ومشروعه الى مجلس النواب المكَوّن من الكتل السياسية الرئيسة، والأساس هو تنفيذ هذا المشروع والاصلاحات الواضحة المطلوبة، وإلّا ليتحمّل مجلس النواب، ممثل الشعب اللبناني والقوى السياسية، مسؤولية الانهيار في حال جَرت عرقلة مشروع الحريري».