لا يزال كل من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري عند موقفيهما برفض كل واحد منهما التنازل للآخر، في وقت تستفحل الأزمات وتتشعّب ويدفع المواطن الثمن الأكبر.
لخّصت عظة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الأخيرة معاناة الوطن والشعب مع الحكّام، وليس هناك أكبر من سؤاله “ألا تخافون الله” لشرح مدى العقم الذي وصلت إليه السياسة في لبنان، والمآسي التي يعيشها الشعب نتيجة إرتكابات من في سدّة المسؤولية.
في 17 تشرين الأول 2019 إندلعت الإنتفاضة التي أطاحت حكومة الحريري السياسية، ومنذ أكثر من ثلاثة أشهر عاد الحريري ليطرح نفسه المنقذ للوطن وللمبادرة الفرنسية على حدّ سواء، لكن الواقع برهن أن كل وعود الحريري ذهبت أدراج الرياح ولا يزال “يُبطنج” في أرضه.
مرّت ثلاثة أشهر على تكليف الحريري في 22 تشرين الأول تأليف الحكومة، والبلاد لا تزال من دون سلطة تنفيذية تهتم بشؤونها، وليس الحريري وحده مسؤولاً عمّا وصلت إليه الأمور بل إن محاولة تبرئته وإلصاق التهم بالرئيس عون ومن خلفه رئيس “التيار الوطني الحرّ” النائب جبران باسيل لوحدهما تُعتبر طمساً للحقيقة.
ويعتبر من يعمل على خطّ تأليف الحكومة أن الحريري هو “شريك النصف” في التعطيل، ويروي هؤلاء كل العوامل التي حصلت وأدّت إلى إلقاء جزء كبير من اللوم على تصرفات الحريري.
وبالنتيجة، لم تبدأ القضية من لحظة تكليف الحريري، بل إنها انطلقت مع انطلاق مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حينها وضع الحريري بند المداورة في الحقائب السيادية كشرط أساسي للسماح للسفير مصطفى أديب بمباشرة التأليف، وبعد تعنّت “الثنائي الشيعي” وتشبّثه بوزارة المال، عاد الحريري وتنازل عنها بعدما بات واضحاً أن مهمة أديب قد أُجهضت من الحريري ومن “حزب الله” وحركة “أمل”. وبعد إفشال مهمة أديب، عاد الحريري وطرح نفسه مرشحاً لرئاسة الحكومة بدعم من “حزب الله” وحركة “أمل”، في حين قام رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط بما يشبه إنتفاضة لكنه عاد وسمّى الحريري.
وتكمن المشكلة الأساسية في أن الحريري اكتفى بتأييد “الثنائي الشيعي” له، وأدار ظهره لأكبر كتلتين مسيحيتين، فلم يتحدّث مع “القوات اللبنانية”، وتصرّف وكأن “التيار الوطني الحرّ” غير موجود، وذهب يُفتش عن فتات الأصوات المسيحية و”يشحدها” من تيار “المردة” و”الطاشناق” وبعض النواب المستقلّين، ووصلت به الأمور إلى درجة طلب دعم الحزب “السوري القومي الإجتماعي” ليقول إن تسميته تحظى بميثاقية مسيحية.
كل هذه التصرفات، بحسب المتابعين، أحدثت تراكمات إنفجرت في وجه الحريري، فلم يلمس الفرنسيون أي تقدّم بعدما وعدهم بأنه يملك مفتاح الحلّ، كذلك، فإن الأمور تزداد تأزماً، ويريد الحريري التصرّف وكأن رئيس الجمهورية غير موجود، علماً أن الدستور واضح في هذه النقطة وينصّ على أن الحكومة تتألف بالتوافق بين رئيسَي الجمهورية والحكومة، وأن أهم صلاحية بقيت للرئيس بعد “الطائف” هي التوقيع على تأليف الحكومة.
وفتحت وعود الحريري بمنح “الثنائي الشيعي” ما يريد من حقائب شهية بقية الأطراف، وهنا ظهر التناقض واضحاً في مهمة الحريري، فكيف يعمل على تأليف حكومة إختصاصيين مستقلة ومنح “الحزب” و”الحركة” ما يريدان من حقائب، وعندما وصل الأمر إلى المكوّن المسيحي لا يريد الحريري إشراك رئيس الجمهورية في التسمية؟ ومن منح الحريري صلاحية توزيع الحقائب المسيحية على باقي القوى وبات الأمين على حفظ حقيبة للحزب “السوري القومي”؟ ولماذا يُصرّ على مواجهة رئيس الجمهورية و”التيار الوطني” في كباش على السلطة بينما يُحيّد سلاح “حزب الله”؟
قدّم الحريري تشكيلة حكومية واحدة لرئيس الجمهورية ورفضها الأخير، وسافر، ثمّ عاد ولم يطرح أي تشكيلة أخرى وكأنه يقول للرئيس إقبل بتشكيلتي أو لا تؤلّف حكومة، علماً أن الرئيس المكلّف يجب أن يُدوّر الزوايا ويقدّم أكثر من تشكيلة لكي تسير الأمور.
أعطى السفير أديب درساً للطبقة السياسية عبر عدم تمسّكه بالكرسي والعودة إلى وظيفته الأساسية بعد فشل مهمته، في حين أن بقية الشخصيات تتمسّك بالكرسي حتى لو كلّف هذا الأمر سقوط الهيكل فوق رأس الشعب، بينما كل الحديث عن الصلاحيات والمواقع وحقوق الطوائف تسقط أمام أنين الشعب الجائع.