رغب كثيرون ان يكون صمت بعبدا و»بيت الوسط» بعد تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة «ايجابياً» و»حامياً» للطبخة الحكومية، قبل ان يظهر انّه كان «زائفاً»، يخفي خلافات عميقة طوال الجولات الـ 12 من المناورات والمفاوضات، وهو ما كشفته حرب البيانات بينهما، فنضحت بما يكفي من الخلافات التي شهدتها المرحلة؟ كيف ولماذا؟
ليس خافياً على احد، انّه ومنذ تكليف الحريري عقب الاستشارات النيابية الملزمة في 22 تشرين الاول الماضي، انّ رئيس الجمهورية ميشال عون لم يكن راغباً بمثل هذه العملية وما انتهت اليه. ولكن العودة الى تلك اللحظات، التي سُجّل فيها انكسار شوكة فئة من اللبنانيين، يرفع من نسبة التحدّي الملقاة على عاتق الرئيس المكلّف. ومن يمتلك «ذاكرة مبخوشة» ليس عليه سوى العودة الى اطلالة عون الشهيرة عشية الاستشارات المؤجّلة «محمّلاً الحريري، من دون أن يسمّيه، مسؤولية معالجة الفساد وإطلاق ورشة الإصلاح. واضعاً الأكثرية النيابية «المشاكسة» أمام مسؤولياتها، داعياً ايّاها الى «التفكير في آثار التكليف على التأليف، وعلى مشاريع الإصلاح ومبادرات الإنقاذ الدولية».
الى ذلك، فإنّ في العودة الى تلك اللحظة، لا يمكن تجاهل إشارة الرئيس المكلّف في بيان «قبول المهمّة»، الى تعهّده بتشكيل حكومة مؤلفة من «اختصاصيين من غير الحزبيين»، بما يتطابق مع المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون في الاول من ايلول الماضي، لانتشال لبنان من دوامة الانهيار الاقتصادي. ومحدّداً مهمتها بـ «تطبيق الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية الواردة في ورقة المبادرة الفرنسية، التي التزمت الكتل الرئيسية في البرلمان بدعم الحكومة في تطبيقها». لافتاً الى انّه «سينكبّ على تشكيل حكومة بسرعة، لأنّ الوقت داهم والفرصة أمام بلدنا هي الوحيدة والاخيرة».
ليس في هذه الإشارات ما يدعو الى «تأريخ تلك اللحظة»، ولكن لإبراز مدى حجم التعهدات التي تبخّرت، بعد مرور اقل من ثلاثة اشهر على التكليف. حتى انّ اللبنانيين الذين ارتاحوا الى تلك الوعود والتعهدات، اصيبوا بالصدمة الكبرى، نتيجة عبور هذه المرحلة الطويلة من دون ان يتحقق شيء منها. لا بل فإنّ الاوضاع إتجهت الى مزيد من التدهور، وإنزلق البلد الى حيث لا يتوقعه احد، وهو يستعد لاستقبال صاحب «المبادرة الإنقاذية الوحيدة» ماكرون، بعد ايام في بيروت.
وعليه، يتوقف المراقبون العارفون ببعض التفاصيل، امام شكل ومضمون البيانات المتبادلة بين بعبدا و»بيت الوسط» مطلع الاسبوع الجاري، والتي القت الضوء على كثير مما لم يُكشف عنه سابقاً. فقد اظهرت بنحو لا يرقى اليه الشك، انّ سياسة «الصمت المتبادل» بين الموقعين كانت تخفي ما لم يُعلن من قبل، ودلّت الى كثير مما كان يؤشر الى عدم التفاهم على العناوين الاساسية، المؤدية الى تشكيل الحكومة العتيدة، على وقع الحديث عن «الإيجابيات»، وبوجود النية بالسرعة لا التسرّع والتأني، من دون الوقوع في الأفخاخ المتوقعة.
ويضيف هؤلاء، انّ موجات التفاؤل التي عبّرت عنها بعض المواقف التي تلت مجموعة اللقاءات بين عون والحريري، كانت مصطنعة، بدليل ما كُشف في الردود المتبادلة بينهما، وما دلّت اليه من معطيات، ومنها إثنتان على سبيل المثال لا الحصر:
– كشف الحريري في بيان «الردّ على الردّ»، وقبل اقفال موجة الردود المتبادلة، انّه تسلّم منذ اللقاء الثاني بينهما «لائحة من فخامة الرئيس بأسماء المرشحين»، وانّه «اختار منها أربعة أسماء لشخصيات مسيحية». والى مخالفته ما قاله «بيان القصر عن تفرّد الرئيس المكلّف بتسمية الوزراء المسيحيين». ولكن إشارة بيان القصر في مكان آخر، الى انّ ما طُرح من اسماء كان «من ضمن لائحة اخذها الرئيس المكلّف للإطلاع عليها». واستطراداً، قال البيان: «لم تكن هذه الورقة معدّة للتسليم، او لاعتمادها رسمياً بل أتت في خانة تبادل وجهات نظر».
– حديث الحريري في بيان الردّ على رسالة مستشار رئيس الجمهورية، تضمن إشارة واضحة الى وجود مشكلة اسمها «الثلث الضامن لأحد الجهات الحزبية». ولا ينفع النفي من الجانب الآخر. فقد بلغت الشروط المحكي عنها كل الاوساط الديبلوماسية، بما فيها خلية الأزمة الفرنسية، ولم تنجح الاتصالات في شأن امراره لدى الحريري، طالما انّ هناك التزاماً ولو صورياً بحكومة «خالية من الحزبيين».
وبمعزل عن هاتين النقطتين، لا بدّ من بعض الملاحظات والأسئلة ومنها:
– ما نفع الإصرار والنفي الذي تردّد اكثر من مرة بين جولة وأخرى من الجولات الـ12 بين الرجلين، على انّهما، وحتى الجولة الثامنة، لم يتحدثا عن اسماء، وانّ المشاورات ما زالت في مرحلة توزيع الحقائب، سعياً الى تفكيك ما سُمّي «عقدة المداورة» في الحقائب، باستثناء وزارة المال، والتي تجاوزها البحث، عندما وضع اسم وزير المال في سلّة الإختيارات الفرنسية لا في سلة ثنائي حركة «امل» و»حزب الله»، ومعها حقيبة وزارة الطاقة. وقيل انّ الاتصالات ضمّت اليهما وزارة الأشغال لاحقاً، من دون ان يتأكّد ذلك رسمياً.
– تحدثت المعلومات التي تسرّبت في مرحلة من المراحل، عن محاولة لإعادة النظر في بعض الحقائب من خارج نطاق المداورة بين الحقائب السيادية الأربع، واعادة توزيعها، وخصوصاً عندما تنازل الحريري عن حقيبة وزارة الداخلية لرئيس الجمهورية، مقابل تخلّيه عن وزارة الطاقة والعودة الى استرجاعها في الجولة العاشرة من المشاورات وردّ الطاقة اليه. ولولا الحديث عن رفض رئيس «التيار الوطني الحر» لتوزير جو صدّي في الطاقة بتزكية فرنسية، لما كُشف الامر عن عملية التبادل هذه، والتي تحولت عقدة كبيرة في الجولة الحادية عشرة.
– هل يُعقل ان تكون الغاية من الاسماء التي طرحها عون في الجولة الثانية من المشاورات، كما قال الحريري، والتي اكّد بيان القصر انّها «لم تكن رسمية وبهدف التشاور فحسب»، المناورة وجسّ النبض أم لتشكيل حكومة؟ ولماذا سمح للحريري بالحصول عليها طالما انّها بهذه «الصفة المنقوصة» ليبني عليها تشكيلته الكاملة التي قدّمها في الجولة الثانية عشرة والأخيرة.
هذا غيض من فيض ما انتهت اليه حرب البيانات بين بعبدا و»بيت الوسط»، وان دلّت على شيء فهي تؤكّد – بحسب ما يقول احد المطلعين على كثير من التفاصيل- انّ بعضاً مما استهلكته جولات المشاورات كانت بهدف امرار الوقت، إنتظاراً لحدث ما. كذلك يمكن اعتبارها من الأفخاخ المتبادلة طوال هذه الفترة، بمعزل عن النزف الذي تعيشه البلاد. وهو ما يعزز الاعتقاد النهائي، أنّ عملية التأليف ربما عادت الى نقطة الصفر وتحتاج الى عملية قيصرية مجهولة المواصفات، ليعود البحث الجدّي في توليد الحكومة. وما على اللبنانيين سوى الانتظار، مع الخوف من حاجة لحصول ما يشبه «نكبة المرفأ»، ليتوقف الجدل البيزنطي حول الحكومة. والى تلك اللحظة، ما عليهم سوى الدعاء وطلب الرأفة والرحمة من الرحمن…