الأوضاع في المنطقة الى تصعيد ومزيد من المواجهات السياسية والعسكرية والصراع «السنّي ـ الشيعي» الى مزيد من التوتر والتشنّج. ومع ذلك تبقى الساحة اللبنانية محيّدة عن صراعات المنطقة وازماتها وحروبها وتُصنّف بأنها هادئة ومستقرّة مقارنة بما يجري في المحيط ودول الجوار.
هذه «نعمة» وما يشبه «الأعجوبة» ان يكون لبنان واحة أمن واستقرار في صحراء الأزمات والحروب العربية وان يظلّ في منأى عن الحريق الإقليمي وألسنة اللهب التي تتطاير شراراتها في كل اتجاه.
«لغزاً محيّراً»…
اسباب وعوامل كثيرة تقف وراء الإستقرار اللبناني الذي يبدو لكثيرين «لغزاً محيّراً»…
– المجتمع الدولي اولاً يهمّه ان تظل الساحة اللبنانية هادئة حتى تظل قادرة على استيعاب ازمة النازحين السوريين ولا ينتقلوا الى اوروبا ولأن انفجار الوضع في لبنان سيؤدي الى انفجار اقليمي واسع وستكون اسرائيل جزءاً منه ولن يكون سهلاً السيطرة عليه.
– الطرفان الإقليميان الأقوى، اي ايران والسعودية، رغم كل خلافهما المتفجّر في كل ارجاء المنطقة العربية، تتفق مصالحهما وتتقاطع على إبقاء لبنان خارج ساحة المواجهة، فإيران يهمّها ان يبقى لبنان جبهة خلفية وقاعدة انطلاق لحليفها «حزب الله» بإتجاه سوريا التي تحدّد مصير ومستقبل المنطقة.
– السعودية يهمّها الإحتفاظ بنفوذها التاريخي والتقليدي وبقاعدتها السياسية الأساسية المتمثلة منذ سنوات وحتى إشعار آخر في «تيار المستقبل» وتدرك قدرات حلفائها وان اي مسّ بالتوازنات والتناقضات اللبنانية سيكون محفوفاً بالخطر.
– الطرفان المتقاتلان في سوريا منذ سبع سنوات، اي النظام والمعارضة، لهما مصلحة اكيدة في الإبقاء على لبنان متنفساً وممرّاً وبوابة انطلاق وتفاعل مع العالم الخارجي، اضافة الى ما يشكّله لبنان من حاضنة للنازحين السوريين المتواجدين على ارضه اكثر من اي دولة اخرى من دول الجوار، فالعدد الأكبر من النازحين يتواجدون في البلد الأصغر مساحة والأضعف قدرات والأكثر هشاشة وحساسية في تركيبته وتوازناته.
الجيش اللبناني والاجهزة الامنية…
ثمةّ عوامل داخلية ساعدت في حفظ الإستقرار ايضآ…
– هناك اولاً العين الساهرة للجيش اللبناني وسائر المؤسسات والأجهزة الأمنية والجهود المركزة التي تُبذل في محاربة الإرهاب وضبط الحدود وملاحقة وتفكيك الخلايا والمجموعات الإرهابية.
– هناك ثانياً الوعي الوطني لدى مختلف القوى المدركة لخطورة الأوضاع وفداحة اي انزلاق بإتجاه الفوضى والشارع، فالكل في لبنان واعون لما يدور حولنا من إعادة رسم خرائط المنطقة ولا تتوافر عند اي طرف إرادة سياسية بالقتال الداخلي او اللجوء الى القوى العسكرية بما في ذلك وخصوصاً «حزب الله» الذي يهمّه الحفاظ على جبهة داخلية هادئة ومتماسكة للتفرّغ للحرب في سوريا.
سعد رفيق الحريري «الجندي المجهول»…
– لكن لا بدّ من ذكر عامل مؤثّر و «جندي مجهول» معلوم، يعود له فضل اساسي في صيانة الإستقرار ودفع الأمور في اتجاه الحوار والتسوية وهو سعد رفيق الحريري الذي ساهم مساهمة فعّالة في إبقاء لبنان على الضفة الآمنة والحؤول دون انتقاله الى ضفة الفوضى والعنف والتقاتل، ولا بدّ من التنويه بدور الرئيس سعد الحريري وجهوده في ضبط ايقاع الوضع اللبناني وفصله عن الوضع الإقليمي وتعقيداته.
الرئيس الحريري اثبت انه رجل القرارات الصعبة التي لا يقدر على اتخاذها الا من تحلّى بالشجاعة السياسية والروح الوطنية.
– هذا ما فعله عندما قرّر عدم الركون الى «الثأر السياسي» في قضية استشهاد والده الرئيس رفيق الحريري وترك للعدالة ان تأخذ مجراها وفصل المحكمة الدولية ومسارها عن الوضع الداخلي ومجرياته.
– وهذا ما فعله عندما قرّر منذ ثلاث سنوات سلوك طريق الحوار مع «حزب الله» بطريقة جدية ومسؤولة لكي يظل هذا الحوار اطاراً اساسياً ضامناً لعدم انتقال الأزمة والخلاف الى الشارع وحتى يظل لبنان دون سائر دول المنطقة ساحة حوار بدل ان يكون ساحة مواجهة، والوحيد الذي يدور على ارضه حوار «سنّي ـ شيعي».
– وهذا ما فعله سعد الحريري عندما انتهج سياسة تحييد لبنان عن الأزمة السورية، والفصل بين موقفه المناهض للنظام السوري وموقفه المنفتح على «حزب الله» رغم انه يقاتل الى جانب هذا النظام.
لم ينتظر الحريري انتهاء الحرب السورية واستتباب الحل السياسي هناك كي يبادر في لبنان، وانما وضع كل الرهانات والحسابات الإقليمية جانباً وتصرّف بوحي من مصلحة لبنان العليا ومقتضيات وحدته الوطنية وعيشه المشترك.
ولعل القرار الأهم والأصعب و «الأشجع» الذي اتخذه الحريري كان قرار انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، متجاوزاً اعتراضات داخل فريقه، ومساهماً في نقل البلد من حال الفراغ الرئاسي والإنهيار المؤسساتي الى ضفة التسوية السياسية التي اعادت الرئاسة والحياة الى قصر بعبدا واعادت الحريري الى رئاسة الحكومة وستوصل عاجلاً او آجلاً الى قانون انتخابات جديد.
لم يحسن الحريري فقط التصرّف في المسائل الكبرى واتخاذ القرارات الإستراتيجية وانما احسن ايضاً في اساليبه وتكتيكاته السياسية وفي كيفية ادارته للأوضاع والملفات مظهراً ذكاء ونضجاً سياسياً.
– هذا ما فعله سعد الحريري عندما قرّر مرافقة الرئيس ميشال عون الى القمة العربية في الأردن متجاوزاً شكليات بروتوكولية، وكذلك عندما طلب من وزير الخارجية جبران باسيل ان يكون في عداد الوفد الذي رافقه الى القمة العربية الإسلامية – الأميركية في الرياض.
– وهذا ما يعكس حرصه على اتباع سياسة تعاون وتنسيق مع الرئيس ميشال عون الى اقصى حدود، فلا يسمح لأحد ان يدخل على الخط للإيقاع والتشويش والتخريب، مدركاً ان استقرار الحكم وانتاجيته شرطهما الأول التفاهم والإنسجام بين رئاستي الجمهورية والحكومة.
موقف سعد الحريري من قانون الانتخاب…
ولعلّ الموقف الذي اتخذه الرئيس الحريري في موضوع قانون الإنتخاب الجديد كان الأبرز في بعده الوطني وفي مداه السياسي الرحب.
رفض الحريري ان يتعاطى مع عملية وضع قانون انتخابي جديد على انها معركة سياسية وانما تعاطى معها على انها «قضية وطنية» وتصبّ في محصلتها في خدمة الوحدة الوطنية والعيش المشترك اللذين لا يكونان الا اذا صار تصحيح للتوازن الوطني ولمسار تطبيق الطائف بدءاً من إعطاء المسيحيين حقوقهم واولّها حقهم في التمثيل الشعبي الصحيح وانتخاب من يمثلونهم فعلاً.
منذ البداية كان الحريري مسهّلاً ودافعاً في اتجاه ولادة القانون الذي طال انتظاره، لم يتمسّك بصيغة معينة ولم يطرح شروطاً خاصة وانما اعلن بوضوح انه مع كل قانون يكون موضع توافق وطني ويكون عادلاً ومتوازناً فلا يظلم ولا يستثني احداً، وهكذا نجح الحريري في تحييد نفسه وتيّاره وحتى طائفته عن تجاذبات قانون الإنتخاب والصراع السياسي الدائر حوله.
– هذا ما فعله الحريري في فترة زمنية وجيزة مثبتاً انه رجل الإعتدال والحوار في مواجهة التطرّف والعنف، وانه أقدر على قيادة تيار الإعتدال الذي وحده يمنع قيام التطرّف وتفشّي الإرهاب طالما انه لا توجد بيئة شعبية حاضنة له.
– هذا الدور الوطني الذي يقوم به الحريري يلقى تقديراً وتشجيعاً من كل القوى والأحزاب بمن فيهم «حزب الله» الذي يتفهّم ويقدّر ظروف الحريري والضغوط التي يتعرّض لها.
– وهذا الدور الوطني يساهم مساهمة فعّالة في تثبيت وترسيخ الإستقرار السياسي الأمني والإقتصادي ويجعل ان سعد رفيق الحريري يستحق ان يكون رمزاً لـ «للإعتدال والشجاعة» وان يُعتبر «صمّام أمان» في هذه المرحلة الدقيقة والإنتقالية.