IMLebanon

رب ضارة نافعة سعد رابح أول؟

من المتداول أن القيادة السعودية هي التي قررت أن يتولى سعد الحريري الوراثة السياسية لوالده المغدور الرئيس رفيق الحريري، إثر اغتياله ومرافقين له في 14 شباط عام 2005. لم يكن سعد بِكر أخوته. لكن يبدو أنه كان الأنسب، من وجهة نظر أصحاب القرار، بالمقارنة مع أشقائه الآخرين.

كانت المهمة صعبة. الشاب سعد لم يكن مستعداً لها. ارتبك وتعثر في سلوكه وخطابه عشرات المرات إلا أنه كان يملك عفوية وبراءة لعبتا، في مناخ عاطفي صاخب، لمصلحة قيامه بالمهمة بشكل مقبول قياساً على حداثة سنه وعهده بالسياسة والعلاقات والصراعات. هذه المحصلة كانت ممكنة، فقط، بسبب استمرار الرعاية السعودية، وهي رعاية شاملة: شخصية وسياسية ومادية… لكن الأمر تغيّر قبل حوالى ثلاث سنوات. عدة عوامل صنعت تبدلاً لغير مصلحة سعد الحريري: العامل الأول هو الأزمة السورية وارتباك السياسة السعودية حيالها، وتخبط شعاراتها ما بين ارتفاع سقف المطالب (رحيل الرئيس السوري ولو بالقوة) ومحدودية التأثير والانخراط السعوديين، بشكل مباشر أو عبر الحلفاء، بما في ذلك الحلفاء اللبنانيون. في لبنان بدت حاجة السعودية، لقوى محلية «ميدانية»، ضرورية للضغط على حزب الله لسحب قواته من سوريا عبر إشغاله وإرباكه، بالصدام والتعبئة المذهبية والتوترات الأمنية… لم يكن سعد حاضراً، بشكل كاف، للقيام بكل موجبات هذه المهمة. العامل الثاني هو تقلص الموارد السعودية بنسبة تفوق الخمسين في المئة بسبب سياساتها في تخفيض أسعار النفط، ما أثر، بشكل كبير على التزاماتها ومشاريعها وخططها. وقد تفاقم هذا الأمر مع الانخراط السعودي المباشر في حرب اليمن ذات التكاليف الهائلة وغير المحددة بميدان وزمن وسقوف… والثالث هو انتقال القيادة السعودية، بعد وفاة الملك عبد الله، إلى الملك سلمان وولي عهده وابنه محمد، ما أحدث تغيُّراً ملموساً (وتراجيدياً أحياناً) في التعامل مع سعد الحريري. هذا إلى تحولات أُخرى في السياسة السعودية صبَّت جميعها في غير مصلحته. والعامل الرابع الذي أضعف «الشيخ سعد» هو طريقته في إدارة مشاريعه حيث كان يفتقر إلى الخبرة وإلى إخلاص معاونين، تبين أن معظمهم كان يعمل لمصلحته الشخصية المباشرة وليس لمصلحة سعد: اكتُشفت سرقات وهدر وجشع. الأرقام كانت بعشرات الملايين من الأموال المنهوبة، وبمئات الملايين من الأموال الضائعة والمهدورة بسبب انعدام الكفاءة والمسؤولية والأمانة.

أدارت القيادة السعودية الجديدة الظهر لشكوى سعد الحريري ولإلحاحه على إنقاذ إمبراطوريته التي ورثها عن والده («سعودي أوجيه»). حتى الوعود التي أُعلنت من قبل المسؤولين السعوديين للتخفيف من وقع الأزمة، وليس لحلها، لم يجر الالتزام بها. مع الأيام واستمرار المماطلة بات الوضع مأساوياً. معروف أن المال ليس ثانوياً لتأمين الاحتفاظ بالحد الأدنى من النفوذ والتأثير والعلاقات. في المراحل الأخيرة، لم يكتف المسؤولون السعوديون بإهمال مطالب سعد الحريري (حتى لو اقتصرت على الصورة ورفع المعنويات)، بل هم استكثروا مجرد تقديم استشارة له فيما كان ينويه من توجهات لممارسة دور يعود عليه بالفائدة في مواجهة أزمته السياسية المتفاقمة. اكتمل «المشهد» الدرامي هذا بتراجع نفوذ سعد بين مناصريه وأعوانه، وبازدياد وتيرة التمرد عليه من قبل مقرّبين. وسرعان ما تبيّن أنه تمرد يتمتع برعاية ودعم من قبل من نافذين في القيادة السعودية وفي عائلة سعد نفسها.

وصل زعيم حزب «المستقبل» إلى طريق مسدود. وجد أن العودة إلى رئاسة الحكومة هي العلاج السريع الضروري لوقف تدهور وضعه السياسي والشعبي (وحتى المالي). أسعفه فريق متضرر من تفاقم خسائره، وعلاقات ورثها عن والده (في فرنسا خصوصاً)، على اتخاذ مبادرات كان يحتاجها الوضع اللبناني لتجاوز عقدة الاستعصاء الرئاسي المتمادي. أتاحت له مبادرته لترشيح النائب سليمان فرنجية حيوية في الحضور والعلاقات كانت واعدة بكل المقاييس. السعوديون الذين أهملوه كلياً، كما أسلفنا ولم يدفعوا له، حتى متأخرات مالية متراكمة لشركاته، تركوه لمصيره بعد أن بات اليمن شاغلهم الأول، وبعد أن تبين أن «الستاتيكو» اللبناني الراهن محروس بقرار دولي شامل سواءً انتخب رئيس للجمهورية اللبنانية أم لم يحصل ذلك…

من خلال إعلان دعم الحريري فرنجية (وهو صديق قديم وثابت لخصوم الحريري والمملكة)، كُسر محرمٌ لم يكن وارداً في ظروف أخرى. وصول ترشيح فرنجية إلى حائط مسدود، سمح، لزعيم «المستقبل» منطقياً وسياسياً، بالانتقال، بعد حوالى سنة، إلى تبني ترشيح العماد ميشال عون الذي ينتمي إلى نفس «فريق» فرنجية…

من حيث شاء أم لم يشأ، وبسبب أزمته المتفاقمة والمتمادية، بات سعد الحريري المبادر الوحيد على الساحة السياسية، والمحرك لدينامية ستفضي، بالتداعي، إلى انتخاب رئيس للجمهورية بعد تماد واستعصاء ومخاطر (استدارة سمير جعجع لمصلحة عون جاءت رداً على ترشيح فرنجية من قبل الحريري). كما أنها ستعيده، هو، إلى السلطة التي طال ابتعاده عنها وتفاقمت في خلال ذلك أزماته إلى حدود كوارثية… «الحاجة أم الاختراع». هذا ما حاوله سعد الحريري مستفيداً من أزمة باتت ضاغطة على كل اللبنانيين، وعلى النظام السياسي اللبناني بأكمله، وعليه هو شخصياً!

يجب التنويه بأن سعد قد خاض مغامرته الأولى بترشيح فرنجية، والثانية بترشيح عون، مجازفاً ومبادراً. صحيح أنه ينطلق من مبدأ «أنا الغريق فما خوفي من البللِ»، لكنَّه كرَّس، من حيث يعلم أو لا يعلم، إمكانية «تدشين» نمط جديد في العلاقة مع «المرجعيات» الخارجية وفي البحث والتباحث المحلي لتوليد الحلول من الداخل بدل انتظار «كلمة السر» من الخارج. طبعاً، لم يصبح ذلك ممكناً لولا أن اختلالاً وقطيعة يسودان العلاقات والتوازنات الإقليمية، ما جعل تلك المرجعيات عاجزة عن الاتفاق بشأن الوضع اللبناني بسبب انخراطها في صراع ضار ذي أبعاد دولية ونتائج قد تكون مصيرية. من جهة ثانية، فقد انقلبت بعض الأدوار والمعادلات: بات لبنانيون يمارسون دوراً مؤثراً في بعض أزمات المنطقة الأساسية (منها الأزمة السورية بشكل خاص)… ما حصده الحريري، من ربح أولي، هو نضوج تجربته السياسية واعتماده مقاربة تتجه لأن تصبح عامة وليس فئوية كما هو سائد.

زيادة حصة اللبنانيين في تقرير شؤونهم (وهي نقيض المحاصصة الراهنة) باتت ضرورية، وحتى، ممكنة. ليس المدخل الطائفي هو الأصح كما فعل العماد ميشال عون الذي يتوهم أنه يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء… كذلك ليس المدخل بتعطيل وتشويه الدستور ومخالفة القانون، إنها، على العكس، تتطلب من الجميع الارتقاء إلى مستوى بناء دولة حديثة وسيدة: دولة قانون ومؤسسات ومساواة وحريات ومؤسسات فاعلة…

* كاتب وسياسي لبناني