IMLebanon

فائض القوة لا يستطيع تزوير التاريخ

 

 

يستطيع فائض القوة أن يغيّر في المعادلة الى حين، لكن تزوير التاريخ ليس من اختصاصه ولم يتمكّن في المفاصل الكبرى من كتابة سطر واحد يقلب فيه الحقائق رأساً على عقب. ففي أمثلة كثيرة اعتقد المنتصرون عن وهم أنّ باستطاعتهم كتابة التاريخ، لكنّ ما كتبوه كان عبارة عن تاريخهم، لا عن التاريخ الذي يفترض أن يكتب بالعناية والموضوعية اللازمتين، لكي يلقى من كتبه بعض الاحترام. ففي عصرنا لم يعد من مكان لتقادم الأحداث فكل حدث يؤرشف، والأرشيف عولمة لا حدود لها، ومعلومات لا تنضب، وتاريخ بالصوت والصورة لن يختفي.

 

من هذه الزاوية يكون الإجتزاء الذي وقع فيه الأمين العام لـ»حزب الله» في نبشه مجزرة صبرا وشاتيلا، عامل إدانة للنابش، لا عامل قوة وإقناع، خصوصاً أن هذا الاجتزاء، تجاهل أحداثاً ومجازر تعرّض لها الفلسطينيون في لبنان، على بُعد أشهر وسنوات من مجزرة صبرا وشاتيلا، نعني بها حرب المخيّمات والحصار الذي أجبر ساكنيها على أكل لحوم لا تؤكل درءاً للجوع، بعدما تهدّم المخيّمان أنفسهما فوق رؤوس القاطنين فيهما والمدافعين عنهما.

 

هل يكون اكتشافاً جديداً أن يعاد التذكير بمجزرة من أسوأ المجازر، شاركت فيها قوة لبنانية بمؤازرة وحماية إسرائيليتين؟ لا إنه ليس اكتشافاً، فالإدانة سبقت أيّ تهرّب أو تملّص من الجريمة. لكن في المقابل كان يفترض بنابش القبور أن يصل المجزرة بالمجزرة، وأن يشيطن مرتكبي المجزرتين، باعتبارهما نفّذتا بحق المخيّمين أنفسهما، أما الشجاعة فكانت تقتضي الاعتذار إلى الفلسطينيين عن التحالف مع أحد أبرز المتّهمين بمجزرة صبرا وشاتيلا، لا التقاط الصور الباسمة معه، كدليل على متانة التحالف.

 

ثم هل سيكون اكتشافاً جديداً أن يعاد التذكير مثلاً بكل المجازر التي نفّذت في الحرب الأهلية بدم بارد، منها التي ارتكبت في الصراع بين المسلمين والمسيحيين، من السبت الأسود الى الدامور الى حرب الجبل وشرق صيدا، الى حروب الأخوة التي كان نابش ملفات الحرب وحليفه الرئيس من أركانها، ولمن لم تخنه الذاكرة، فإن حروب الأخوة هذه، سواء المسيحية منها أم الشيعية، تخلّلتها مجازر وتصفيات واغتيالات ومعارك إبادة دمّرت مدناً وقرى وهجّرت مئات الآلاف، ولا يزال أرشيف الحرب اللبنانية بالصوت والصورة يزخر بالمآثر، من الضاحية وإقليم التفاح والنبطية والصرفند، الى الأشرفية والقليعات ونهر الموت والعدلية، ولا يزال تصريح نبيه بري عن تلك الحرب يرنّ في الآذان، وهذا التصريح يفترض أن تدوّنه كتب التاريخ للعبرة والمعرفة.

 

إذا لا وجود لأيّ اكتشاف في التذكير بمجازر الحرب إلا لمجرّد رفض إقفال مقابر الحرب، وقد جهد حكماء كثر في محاولة إقفالها بشكل نهائي، ومن هؤلاء نصرالله صفير، وليد جنبلاط، رفيق الحريري، سمير جعجع، سمير فرنجية، هاني فحص، جورج حاوي، فارس سعيد، ومن يشبههم.

 

لقد كان في مواجهة هؤلاء رهط من حفاري القبور، ومن هواة الروائح العطرة، ومحترفي إشعال الحرائق، حملوا المعاول على مدار الساعة من دون كلل، وعاشوا على نبش رماد الحرب، وكان العماد ميشال عون قائدهم وملهمهم في البيئة المسيحية، وها هو يتلقّى عوناً من نابش قبور جديد، يريد أن يرسم خطاً فاصلاً يمنع التقاء الحد الأدنى بين أي لبناني وآخر، لأن هذا الالتقاء يفقد وظيفة حماية أهل الذمة جوهرها، وهو يريد لهذه المهمة أن تبقى سارية المفعول، وما من عامل يبقيها حية إلا إذكاء نار الفتنة والخوف، وفتح أبواب مقابر الحرب.