زرت بيروت مباشرة بعدما وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها إثر اتفاق الطائف، وحرصت على أن يكون شارع الحمراء هو محطتي الأولى في العاصمة الجميلة، وهناك أصابني حزن عميق وانقباض لما شاهدته من دمار أسقط الذكرى الجميلة التي احتفظت بها لهذا الشارع الذي كان يمثل صورة فريدة للتعددية العولمية، فهناك كان يكفي أن تتناول فنجان قهوتك على الرصيف وتتأمل العالم بأجناسه ومعتقداته كافة يمر من أمامك، ويكفي أن تجلس في مقهى الهورس شو (حذوة الحصان) لتستمع إلى نقاشات يديرها أهم مثقفي العالم العربي وهم يجاورونك في الطاولة، وعلى الرصيف المقابل تنطرح على بسطات أرضية كتب من جميع الأفكار والتوجهات لتنتقي منها ما تشاء، سواء أكنت تريد كتاب التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، أم كتاب رأس المال لكارل ماركس.
الدمار الذي لحق بشارع الحمراء في بيروت لم يكن من السهل إصلاحه حتى بعد أكثر من ثلاثة عقود من توقف الحرب، فهو دمار أشمل من المباني والمقاهي والمسارح وقاعات السينما، فقد التهم روح التسامح والتعددية وهي المتضرر الأكبر، وهذه لا يسهل نفخ الروح فيها من جديد بالتأكيد.
الشاهد في الحديث عن شارع الحمراء البيروتي هو مشاهدة ما يلحق الآن بالنموذج الأصلي في التسامح والديموقراطية والحوار، وهو شارع الشانزليزيه الباريسي الأشهر، وهو شارع آخر تعلّقت به كثيراً للأسباب التعددية نفسها «العولمية»، ولذا فإن حالة الحزن والانقباض عاودتني وأنا أشاهد ما أصابه من دمار جرّاء الاحتجاجات الشعبية التي اتخذت شعار السترات الصفر. ولدي خوف بأن يصيبه دمار يصعب إصلاحه هو الآخر.
وبالتأكيد لن يكون من العدل ولا المنطق عقد مقارنة بين الأسباب التي أدت لما حل بالشارعين، فالشارع اللبناني كانت لديه تعددية ذات أساس هش وغير حقيقي، ولذا فإن الزعماء السياسيين وليس الأحزاب هم الذين أشعلوا الحرب الأهلية، ولأنهم شيوخ قبائل وميليشيات مسلحة ذوو ارتباطات أجنبية أكثر مما هم قادة مؤسسات دستورية، فقد تبعهم الغوغاء وتقاتلوا بشراسة، أما في الشارع الفرنسي فإن جينات الثورة الفرنسية من القرن الثامن عشر عادت للنشاط لدى الناس، فخرجوا إلى الشارع الشهير بداية مطالبين بتحسين ظروفهم المعيشية، ومدمرين كل ما طالته أيديهم من محال تجارية وبنوك ومقاهٍ وسيارات، وبدأوا يخاطبون الرئيس ماكرون وكأنهم ينظرون إلى ماري أنطوانيت في شرفتها العالية.
وأيضاً يصعب التنبؤ أو التوقع أن تتحول الاحتجاجات إلى حرب أهلية، لكن رقعتها تتسع وسقف المطالب يرتفع. والمطالب التي بدأت بإلغاء الضرائب الجديدة على المحروقات وصل عددها إلى عشرات المطالب، من بينها استقالة الرئيس نفسه، ولحقت مدن فرنسية أخرى بالحركة، بل إن العدوى امتدت إلى دول مجاورة (بروكسيل مثلاً).
ومع تفهم عدالة رفض المحتجين رفع أسعار المحروقات، ذلك أنها بالفعل غير عادلة ولا تعكس حقيقة أسعار النفط في السوق العالمية، ولا تكلفة تكريره وتسويقه ولا حتى الحد المعقول من الضرائب (القيمة المضافة وضريبة الكربون)، لكن الذي يصعب فهمه هو كيف يمكن أن يفشل النظام في دولة عريقة في تجربتها الديموقراطية في احتواء مطالب الناس. فرنسا التي أعطت للعالم نماذجها في الديموقراطية وحقوق الإنسان، الدولة التي ترفع شعارات الحرية والإخاء والمساواة، لم ينجح نظامها الديموقراطي ولا برلمانها ولا مؤسساتها المدنية ولا صحافتها ولا حرية الرأي فيها بالتنبؤ برد الفعل الشعبي تجاه قرار غير شعبي، وانطلق مرتدو السترات الصفر من دون قيادة ولا ضوابط يقولون ما لم يقله ممثلوهم في البرلمان ورفضوا ما أقرته حكومتهم المنتخبة، بل إنهم رفضوا أيضاً تسلق أحزاب المعارضة على ظهر حركتهم. وبدت الحكومة عاجزة حتى عن إقامة حوار مع المحتجين. الأنظمة الديموقراطية تعطي الناس حق التظاهر للتعبير عن موقفهم، إنما لا تستطيع ضبطهم ومنعهم من إحداث الفوضى والتخريب حينما ينفلت العقال ويتسلل المخربون إلى الصفوف، ولهذا لم تسجل حتى الآن حالة إطلاق رصاص حي ولم يسقط قتلى، وإنما تكتفي الشرطة بقذف المتظاهرين بالقنابل المسيلة للدموع.
لفت نظري من مطالب المحتجين مطلبان، الأول: أنهم يريدون نظاماً تمثيلياً للانتخابات البرلمانية يجعل المؤسسة التشريعية أكثر تمثيلاً للمواطنين، وكأنهم هنا يريدون أن يحدثوا ثورة لإصلاح الثورة الأولى التي أوجدت الجمهورية أساساً، والثورة الثانية التي أجبرت بطل الحرب شارل ديغول على الاستقالة. وهذا ربما يعني القول بأن الأنظمة الديموقراطية في العالم تحتاج إلى إعادة نظر في آلياتها.
المطلب الثاني اللافت للنظر يقول: إن المحتجين يريدون «التوصل لاتفاق سريع حتى يعود اقتصاد البلد إلى حالة جيدة قبل أعياد الميلاد». وهم بهذا يريدون التأكيد على براءتهم من أعمال التخريب التي مارسها «المندسون»، وعلى جديتهم في المطالبة بالإصلاح وتحقيق العدالة.
والحقيقة أن الفرنسيين – كما عرفتهم – لا يريدون ولا يتحملون أن تحلّ أعياد الميلاد ورأس السنة وشارع الشانزليزيه مغلق أمام احتفالاتهم.
* كاتب سعودي.