IMLebanon

حزين لموت السياسة في لبنان.. ولكم من بعدها طول البقاء

لا يجوز أن نقبل بعد الآن باستخدام كلمة الشغور الرئاسي ، لأنّها لا تعبّر عن حقيقة ما نحن عليه ألا وهو الشغور السياسي ، وأول أعراضه هو خروج كلّ التعابير والأفعال من مضمونها ، لأنّ غاية السياسة هي تجديد المعاني والأفعال بما يتناسب مع التطور البشري والطبيعي، فالسياسة هي الإنتظام العام والتّفاعل والبحث الدائم عن الحلول والمعوّقات والتّحديات، السياسة هي أن يكون الآن هو الغد والغد هو الأمس ، السياسة هي أن ترى الوقت كما ترى الأشياء والنباتات والإنسان ، أي أن يصبح الوقت مدرَكاً ومرئياً ، السياسة هي عملية إبقاء الناس داخل الزمان وليس خارجه.

لا أعتقد أنّني أنتقص من قدر أحد لأنّه لا يوجد الآن على الأقل من يدّعي السياسة ، وهذا ليس عيباً لأنّ البحث عن السلطة وتكوينها يقوم على رغبة البقاء الدائم في السلطة، لأنّ التّجمعات البشرية التي لم تتحول إلى مجتمعات ودول تعتقد بأنّ السياسة هي السلطة وكلّ من في السلطة سياسي.. وهذا غير صحيح لأنّ صنّاع السياسة في مجتمعات  الدولة يختارون أحياناً للسلطة ممثلاً سينمائياً مثل الرئيس ريغان وغيره، أي أن السياسة تختار للسلطة الأكثر قابلية للتسويق، ضمن ضوابط الحزب السياسي الذي يرشحه ويصنع السياسة لأهل السلطة.

الأمور عندنا مختلفة، فأهل السلطة يختارون أتباعاً لهم للعمل في السياسة، وذلك يجعل السياسة في خدمة السلطة.. وهنا تنتفي الدولة التي لا تقوم إلا على أساس السلطة في خدمة السياسة، أي أنّ السلطة أداة لتحقيق الغاية وليست غاية بذاتها كما هو الحال في التّجمعات البشرية ما دون الدولة ومنها لبنان الحالي.. لهذا يذهب بعض نخب السلطة في لبنان إلى الاهتمام بسياسات الدول الأخرى ويعرفون قضاياهم وكتّابهم ومفكريهم وأحزابهم السياسية.. ويتوهم بعضهم بأنّهم يساريون أو يمينيون فرنسيون ، أو ديموقراطيون أو جمهوريون أميركيون، ويستقرون في ذلك الوهم لأنهم فشلوا حتى الآن أن يحوّلوا لبنان من مجموعات حول السلطة إلى مجتمع سياسي داخل الدولة.

إنّ التّفكك المجتمعي هو أبلغ دلائل انعدام السياسة، اذ تفقد الأماكن وظائفها ومعانيها فلا تعود المدن مدناً ولا الأرياف أيضاً، فتتريف المدن وتسقط الأرياف ويصبحون جميعاً يعيشون حالاً من الازدحام وعدم الانتظام.. ويصبح البرلمان مكاناً وليس برلماناً والقصر الرئاسي كذلك وغيرهما ، وربما كلّ الأماكن وكلّ التجمعات تفقد معانيها ووظائفها، لأنّ المعاني متلازمة مع وجود الانسان وهي أيضاً تحتاج إلى الماء والهواء والاستقرار والأمان ، والمعاني أيضاً  تكبر وتتزاوج وتنجب وتشيخ وتتجدد ، فالإنسان موجود في معنى وجوده وليس في رغباته وميوله .

عندما يصاب الإنسان في مرض عضال يعرف أنّه موجود فقط في الزمان وأنّ الحياة ليست سوى ساعات وأيام وأشهر وسنوات،  ويصبح المريض مستعد أن يضع كلّ ما يملكه من أجل البقاء ساعة في الحياة.. ووظيفة السياسة هي إبقاء المجتمعات والمعاني والمشاعر والأفكار على قيد الحياة ، وعندما تنعدم السياسة كما هو الحال في لبنان يكون ذلك المجتمع قد فارق الحياة.. إن الأديان جاءت لتسوس البشرية المتهالكة والمظلمة نحو الانتظام والضوء والرجاء ، وكذلك فعل العلم والأدب والفكر والإبداع والابتكار و صنّاع السياسات.

لبنان مريض بنقص المناعة السياسية ، وهو طريح الفراش في غرفة العناية الفائقة، وفاقد التركيز وكثير الهلوسات، وفاقد للذاكرة القريبة وتلك من علامات ضمور الدماغ.. عندما لا تبقى سوى الذكريات القديمة يكون العقل قد تعطل تماماً لأنّه غير قادر على إدراك ضروراته الآنية والمستقبلية.. لذلك يستحضرون الآباء والأجداد وينسون مستقبل الأبناء.. ولهذا لم يعد لدينا إدراك بما نقوم به فيتّسخ وجهنا بالنّفايات، وتطلع رائحتنا من الفساد، وتنعدم روادعنا الانسانية والأخلاقية، حتى بتنا نسرق علناً ونقتل علناً.. وأنا حزين جداً لموت السياسة في لبنان ولكم من بعدها طول البقاء خارج الزمان.