أواخر عام 2018 وفي أيار الماضي، أرسل المؤرخ حسان الحلاق كتاباً مفتوحاً إلى بلدية بيروت يطلب فيه «تصويب الالتباس في اسم شارع السادات». أصل الطلب هو إعادة الإعتبار إلى صاحب الإسم، بيهم العيتاني السادات، بعدما صار إسم الشارع، في لاوعي كثيرين من الأجيال المعاصرة، مرتبطاً باسم الرئيس المصري الراحل أنور السادات. هنا، شذرات من قصة السادات «الأصلي» الذي يحمل الشارع اسمه
منذ سنواتٍ طويلة، يمرّ اسم «شارع السادات» كأسماء غيره من الشوارع البيروتية: المقدسي، بلس،. اللبان، أدونيس، يموت… من دون أن يكون ثمة ما يميّزه. كان مجرد إسم وُضع لسهولة الإستدلال إليه. ولم يكن في بال العابرين فيه أو الذاهبين إليه، أو حتى غالبية من يسكنه اليوم، السؤال عن هوية الشخص الذي ارتبط الشارع باسمه. لكن، قبل فترة قصيرة، أيقظت رسالة مفتوحة وجهها المؤرخ حسان الحلّاق إلى رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني لـ«تصويب الإلتباس في اسم الشارع» ذاكرة البعض لتفقّد أثر «السادات» الذي كُنّي الشارع باسمه. فمن هو صاحب الإسم؟
جولة صغيرة بهذا السؤال في الشارع الذي يمتدّ من منتصف شارع بلس جنوباً إلى ما يعرف اليوم بقصر عمر الداعوق تخبر قصة ذاكرة ناسها ضئيلة، قد ترجع في مداها الأقصى إلى سبعينيات القرن الماضي، ولا تعرف شيئاً عن حكاية السادات «الأصلي». واحد منهم فقط، في سن متقدّمة، روى قصة يتوارثها الساكنون هناك عن «ثلاثة أشقاء كانوا يسكنون في مغارة على رأس ربوة في تلك المنطقة وكانوا ينعزلون نهاراً عن الناس ويخرجون ليلاً، فيقول الناس عندما يحلّ سكون الليل: إجوا السادات». هذه الرواية «خرافة من التراث الشعبي البيروتي»، على ما يقول الحلّاق. أما من هو السادات، فرواية أخرى.
لا أحد في الشارع يعرف أصل الحكاية. كل من سألناهم كانوا يستغربون لارتباط الإسم في ذاكرتهم بالرئيس المصري الراحل أنور السادات. لكن، لا أنور السادات ولا السادات الثلاثة المتصوفون هم المقصودون بالتسمية، بل، بحسب المؤرخ حلّاق، حامل لقب «السادات بيهم العيتاني» الذي سكن ذلك الحي في بداياته.
قصر محمد أفندي بيهم العيتاني الذي اشتراه آل الداعوق في عشرينيات القرن الماضي
انطلاقاً من هنا، كان السؤال المعكوس لأهالي الشارع والعابرين فيه: من هو بيهم العيتاني؟ لكن، لم يكن بمقدور أحد أن يجيب. فمنذ سنواتٍ طويلة، لم يعد ناس شارع السادات أنفسهم. تغيّرت الوجوه، ومن كان يعرف التسمية الأصلية شاخ ثم مات. فيما البقية يتغيرون كل يوم. يأتون ثم يرحلون. يستعيد الحلاق قصة الشارع لتصحيح «الخطأ الذي يعيد التسمية إلى الرئيس المصري، وهو ما صار دارجاً لدى الكثير من الأجيال المعاصرة». لكن، أنور السادات لا علاقة له بكل ذلك. كل ما في الأمر، أنه… مذ صار هناك إسفلت، انقطعت سيرة السادات «الأصلي»، وحلت مكانها سيرة أخرى. يروي الحلاق أن ما قبل «الخطأ»، حمل الشارع اسم محمد أفندي بيهم العيتاني، وهو أحد وجهاء آل بيهم العيتاني. كان ذلك في العهد العثماني عندما حمل «محمد بيهم أفندي» لقب السادات «كونه كان من أهل الخير». وكان لعائلته دور في ذلك، فوالده «كان يملك امبراطورية تجارية ويتميز وأولاده بالوجاهة والغنى». وبامتلاكهم لتلك الأمبراطورية «والتي ذاع صيتها ووصلت بضائعها إلى جميع المناطق اللبنانية وجميع المدن العربية (دمشق، حلب، حماه، القاهرة، الاسكندرية، بغداد…) وبعض دول أوروبا (من فرنسا إلى بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا…) صار آل بيهم العيتاني وجهاء في المنطقة ومقصداً للكثيرين».
في ذلك الحين، كان العيتاني الأب يسكن في قصرٍ في منطقة زقاق البلاط. وكان لذلك القصر حكاية مع الناس تتكرر «كل يوم خميس»، إذ كان البيارتة «الذين يجلسون إلى المقاهي في ساحة السور (ساحة رياض الصلح حالياً) يلاحظون يوم الخميس زحمة ناس متوجهين إلى حدود القصر في زقاق البلاط. وعندما كان أحد يسأل إلى أين يذهب هؤلاء، يأتيه الجواب إلى بيّهم العيتاني».
وكان المقصود ببيّهم «أبوهم»، إذ كنّي بأبو الفقراء. هكذا، صار الجواب يأتي تلقائياً كل يوم خميس «رايحين عند بيّهم». من هنا، أخذ آل بيهم العيتاني لقبهم «الذي لا يعطى إلا للوجهاء». وكانوا فرع الوجهاء في عائلة العيتاني، قبل أن ينفصلا عائلتين: بيهم والعيتاني، تماماً كما كان آل الحص فرعاً من آل العيتاني، قبل أن يصبحا عائلتين أيضاً.
من زقاق البلاط، انتقل فرع من آل بيهم العيتاني إلى ما بات يعرف اليوم بشارع السادات. هناك، بنى محمد أفندي بيهم في المنطقة التي كانت رملية قصراً على «ربوة من المنطقة تعرف اليوم بمنطقة قريطم، حيث كان مبنى السفارة السعودية قديماً». وهو القصر الذي اشتراه في عشرينيات القرن الماضي آل الداعوق، وصار آخر حدود شارع السادات. عندما بنى محمد أفندي قصره، كان ينزل من هناك بعربة تجرّها الخيول ومعها عربات أخرى ويمر في الشارع الرملي، «وكان البيارتة يتجمهرون ويقولون أتى السادات بيهم العيتاني». بعدها، حمل محمد أفندي لقباً إضافياً، بعدما صار «ممثلاً لمدينة بيروت في مجلس المبعوثان العثماني فأضيف إلى وجاهته ومكانته السياسية والاجتماعية والتجارية». وكانت المنطقة التي سكن عند ربوتها السادات راقية لا يسكنها إلا الوجهاء والأغنياء، قبل أن تأتي الكلية السورية الإنجيلية، التي صارت تعرف في ما بعد بالجامعة الأميركية في بيروت، لتعزّز هذا «الرقي». مذذاك، صار «التملك» فيها حكراً على الأغنياء والتجار. ويروي الحلاق أن «هذه المنطقة كانت في العهد العثماني وأوائل عهد الإنتداب الفرنسي أغلى من بقية المناطق وكانت مصيفاً للبيارتة الأغنياء، فيما متوسطو الحال كانوا يصطافون في منطقة الأوزاعي عند شاطئ البحر».
السادات هو محمد أفندي بيهم العيتاني الذي امتلك امبراطورية تجارية وصلت بضائعها الى أوروبا
في القرن التاسع عشر، حمل الشارع اسم السادات نسبة الى محمد بيك أفندي. يومها سماه الناس وكرّسوه قبل أن تأتي البلدية في عشرينيات القرن الماضي لتثبت ذلك. لكنه، في الفترة اللاحقة ومع غياب الوجوه الكثيرة التي تحفظ ذاكرتها تلك السيرة، حصل الخطأ وصار واقعاً. من هنا، أرسل الحلاق كتابه إلى بلدية بيروت لتصويب الأمور ووضع الإسم كاملاً على اللوحات التعريفية في الشارع. وأسند كتابه إلى جملة من الوثائق، منها صور عن مراسلات ووثائق موجودة في سجلات المحكمة الشرعية في بيروت وفي البلدية، ومراسلات خاصة لآل بيهم العيتاني يوجد قسم كبير منها في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، ويشير بعضها إلى وجود سوق سابق في وسط بيروت باسم سوق السادات بيهم. وسبق كتاب الحلاق كتاب بعثت به جمعية آل العيتاني إلى بلدية بيروت تطلب الأمر نفسه. وقد عرض طلب التصويب مرتين في جلسات المجلس البلدي، وأرجئ لوجود ملفات طارئة، على أن يطرح قريباً لتصحيح هذا الخطأ.