IMLebanon

الانتقال من تحكُّم «الطائفية السياسية السادية» إلى حكم «دولة المواطنية السياسية الراعية»

 

السياسية السادية
السادية بما فيها «السياسية السادية» هي لذة ايقاع الألم في الآخرين، من قبل شخص متسلط عديم الرحمة والمسامحة، همه تحقير، إهانة وإذلال الآخرين بسحق آدميتهم وجرح كرامتهم، هو لا يشعر بالذنب عند ارتكابه الأخطاء وهو عديم الثقة بمن حوله (من هي الشخصية السادية، 2018)، يقابل السادية خلل مرضي من نوع آخر يسمى «المازوشية السياسية»، وهي رغبة الخضوع والاستمتاع بالاضطهاد والإهانة والألم الجسدي والنفسي الذي يتسبب به السادي.

يصنع، يغذي ويستغل الساديون من الحكام الديكتاتوريين كما الدول المستعمرة الراعيّة لهم «المازوشية» ويسعون إلى زيادة تفشيها بين التكتلات السياسية، لتقوم سلطتهم عندها بدورها السادي الإستعلائي، ويقوم الشعب والكيانات السياسية المعارضة لهم بدور المازوشي الخاضع لهذا الإستعلاء (حمادة ع.، 2017).
«الطائفية السياسية» متعلقة بشكل أو بآخر بالسياسية السادية، هي نظام سياسي اجتماعي متخلف يرتكز على معاملة الفرد كجزء من فئة دينية تنوب عنه في مواقفه السياسية، لتشكل جسم سياسي ضعيف في دولة مجتمعها غير متماسك، تحكمها الإنقسامات العمودية، تتحكم الطائفية بحياة الفرد الشخصيّة وفق قوانين وشرائع معلبة على قياس السياسيين المتحكمين (الكيالي ع.، 1985).
يرتبط الإنتماء الطائفي السياسي على مستوى الجماعة بانتماء تاريخي وديني ومذهبي مركب يمنح نوعًا من الخصوصية والتميز، تتسبب بالإنكفاء والتقوقع حول الذات، هناك تفضيل ل «ابن الطائفة» على الآخرين، وتتسبب بنوع من الإنقسام إلى «نحن» و»هم»، ينتج عنه شعور عام بأن «النحن» هو الأفضل، وان «الهم» هو الآخر المتربص والرافض لماهية الطائفية، والمهدد لوجودها.
وعادة ما يتسبب هذا المنوال في التفسير، اتحاذ المواقف من الآخر لشرعنة اقصائه ونفي وجوده وحقوقه وبالتالي تحقيق سادية بعناوين سياسية مرتبطة بأساطير وقراءة تاريخية مشوهة (محمد صالح ج.، 2016). يمتزج تشوه المجريات التاريخية وقصص التراث بالسياسة والحياة العامة، لتصبح مادة يمكن تطويعها واستخدامها وإعادة انتاجها في عالم سياسة مرتبطة حتمًا بعالم السلطة والمال.
استخدمت دول مستعمرة مفهوم الطائفية السياسية / القبائلية أو الإثنية السياسية، واستغلتها لخلق اختلاف يحقق سيطرتها السياسية على هذه المجتمعات، نجحت بنقل مرض السادية الى طائفة، قبيلة أو إثنية مرتبطة بها وتحقق مصالحها، بعد ترويجها بين أفرادها لأساطير مظلومية تاريخية وواجب «الكره المقدس» بهدف شرعنة اقصاء باقي الطوائف وشرعنة أحقية السيطرة على الثروات والتحكم بعالم السلطة والمال لهذه الدول.
إذًا تأخذ الطائفية السياسية شكل القبلية السياسية في الدول التي يأخذ التنوع فيها الشكل القبلي والإثني بدل التنوع الطائفي، كما هو حال جيبوتي، رواندا وماليزيا وغيرها من الدول، ومن الطبيعي أن ترعى الدول المستعمرة «السياسية السادية» لتعزيز الطائفية / القبلية السياسية بما يتلاءم ومشروع احكام سيطرتها على ثروات البلد بواسطة فئة تتحكم بباقي مكونات البلد.
تعتمد «الطائفية السياسية» بشكل مطلق على الدعم الخارجي لحمايتها من مكونات مجتمعها الرافض لها، والذي قد ينتفض عليها في أي وقت لأن مازوشية الخضوع مؤقتة ومحدودة، كما هو حال التجربة اللبنانية، السورية، رواندا، كمبوديا، أفريقيا الجنوبية والوسطى وغيرها من الدول، كما يأخذ العديد من «الطائفيات السياسية» عناوين «العلمنة» للتغطية على التعصب اللامحدود الذي يشكل الدولة العميقة للطائفية السياسية في هذا البلد.
الطائفية السياسية السادية في لبنان
إن مصطلح  «الطائفية السياسية» وتبعاتها المدمرة يختلف كليًا عن مفهوم المذهب المرتبط بدين معين، فالأولى مصطلح قبائلي تعصبي عنصري مرتبط بمصالح دولة خارجية معينة، أما الثاني فهو مفاهيم قيمية ايمانية منفتحة مرتبطة بسلوكيات وشعائر دين ومذهب، من هنا نجد أن هناك فرقاً كبيراً ما بين المارونية السياسية وما بين المذهب الماروني، الشيء نفسه ينساق على السنية السياسية، الشيعية السياسية، الدرزية والأرثودكسية وغيرها تاريخيًا ارتبطت الفترة التي سبقت إنشاء الكيان اللبناني بإدارة إقطاعية متنوعة طائفيًا (سرسق، ضاهر، أبي صعب، جنبلاط، أرسلان، حمادة، شهاب، خليل، خازن، أسعد …).

وأخذت الطائفية السياسية قبل انشاء الكيان اللبناني شكل الإقطاع السياسي عمودها الفقري «السنية السياسية» كمذهب الأمة، لتنتقل أيام الإنتداب الفرنسي الى المارونية السياسية التي أخذت شكل مؤسسات نشر الثقافة الفرنسية بعناوين طائفية في التعليم والإستشفاء وغيرها، مدعومة بعلاقة وطيدة مع زعامات تقليديّة من مختلف الطوائف.
تدارك الرئيس فؤاد شهاب باكرًا (عام 1958)، عدم قابلية الإستمرار بالمارونية السياسية في حكم البلاد، وبضرورة الإسراع باستبدالها بحكم مؤسسات الدولة الراعية، ولكن اصرار وطمع من لم يواكب الرؤية الشهابية وتعطيل المضي قدمًا فيها، تسبب بالدخول الفلسطيني وسيطرة ميليشياتها التي استفادت من التفاوت الإجتماعي والحرمان المناطقي والطائفي ومن تحالفها مع أحزاب لبنانيّة بعنوان الحركة الوطنية، ليدخل لبنان في نفق الحرب الأهلية، وصولًا للإحتلال الإسرائيلي ومن ثم سيطرة النظام السوري وميليشيات الحرب الأهليّة المرتبطة به على مقومات الدولة.
انتقلت «الطائفية السياسية السادية» الى زعماء ميليشيات الحرب الذين نجحوا بإنشاء نظام طائفي تحاصصي أي «الإتفاق الثلاثي لميليشيات الحرب» الذي حل مكان تطبيق الدستور والطائف، شوهت قوى الأمر الواقع مفاهيم الدولة الدستوريّة بعد إقصاء رجال الدولة الفعليين، لتكون الشيعية السياسية الممولة والمرتبطة بالمحور الإيراني ماليًا وعسكريًا وأمنيًا هي العمود الفقري لمرحلة جديدة بعنوان المقاومة.

التحق الفريق المسيحي السياسي عام 2005 بالنظام التحاصصي ووسع دائرته، ليصبح سيد العملية «الديمقراطيّة» قانون انتخابي مفصل على قياس «زعماء سلطة محاصصة فاسدة» ومسيطر عليه بالكامل من قبل طرف يملك فائض القوة العسكريّة والأمنيّة ومرتبط بمحور معين ويتبادل حماية هذا النظام المشوه بشكل غير مباشر مع من يملك فائض السيطرة المالية والإعلاميّة.
تمارس كل القوى السياسية المسيطرة على الحكم في لبنان «طائفية سياسية ساديّة» بمستويات وأشكال مختلفة، ويمكن القول حاليًا أن هناك سلطة أمر واقع هي مزيج من الطائفيات السياسية السادية المتراكمة وبأحجام متنوعة، تمتد من المرحلة الإقطاعية التي سبقت انشاء الكيان الى المارونية السياسية، السنية السياسية، الدرزية السياسية، الشيعية السياسية، الأرثودوكسية السياسية وميليشيات الحرب.. والغائب الوحيد عن هذه المعادلة هي دولة المؤسسات الدستورية الراعية لكل الشعب بعدالة.
إن الطائفية السياسية السادية هي خلايا سرطانية تفرخ وتتمدد بإستمرار نتيجة غياب جهاز مناعة مشروع الدولة، في جسد وصل حاليًا إلى مرحلة الموت. ضيّع هذا التمدد الفيروسي القاتل مفاهيم ومعالم الدولة بالكامل، واستبدلها بمفاهيم شعوذة الإتفاق الثلاثي، الرباعي، مار مخايل، الدوحة ومعراب، ليحقق مصالح آنيّة لسلطة طائفية سادية فاشلة ومتخلفة، يحاول كل أطرافها التغطية على فشلهم المريع بالهروب الى الأمام عبر طرح مشاريع تدميرية جديدة بعناوين المثالثة، المؤتمر التأسيسي والفيدراليات الطائفيّة للتغطية على جريمة محاصرتهم لمشروع تطبيق الدستور والطائف.
إضافة الى كون «الطائفية السياسية السادية» في لبنان متعلقة بتغييب مشروع بناء دولة الحقوق والمؤسسات الراعية لكل المواطنين بعدالة وإنصاف، هناك تبعية السياسيين المتحكمين بالسلطة والمال لمصالح دول خارجية هدفها السيطرة على ثروات الشعب، وتحقق لهم ضمان استمرارية التحكم بمكونات طوائفهم بما يعزز احتكارهم السياسي، وهم بالتالي «سياسيو الوصاية» كما أوضح مؤخرًا أحد الوزراء عندما تعرض للخطر وكان مشوش الوعي.
تمكنت قيادات تاريخية في العديد من الدول الدخول الى معترك معالجة مثل هذه الآفات، ونجحت في أعادة بناء دولها وفق أسس العدالة والإنصاف الإجتماعي، فالرئيس «مهاتير محمد» نجح في تحقيق توازن وتكامل ما بين أثنية الملايو والصينيين والهنود وباقي الأقليات بما حقق تطور وازدهار ماليزيا، بينما دخلت رواندا في حرب أهلية وجرائم ابادة بالملايين في حروب قبائل الهوتو ضد أقلية التوتسي نتيجة تدخل دول خارجية في شؤونها الداخلية، قبل أن تتحول في السنوات الأخيرة الى معركة بناء حضاري مشرف عبر السعي لتكون أحدى أهم الدول الأفريقية الصاعدة.

وهنا نستحضر قول الرئيس «مهاتير محمد» عند زيارته لبنان عام 2003 «أن سر نهضة ماليزيا متعلقة بالإلتزام بمبدأ «جارك بخير أنت بخير» وبالتالي أساس مشروع بناء الدولة هو إحترام القيم، وتطوير كل مكونات المجتمع من خلال معايير موحدة لتحقيق الإزدهار والإستقرار».
القضاء على الطائفية السياسية السادية
علينا العمل بجهد للقضاء على «الطائفية السياسية السادية» والمازوشية المذلة للشعب في لبنان والعالم العربي، والسعي الدؤوب لإنتشال مجتمعنا الذي ذاق كل أنواع الشرور والجرائم من «محاصصة سلطة سادية»، والعمل على تجريم كل أنواع العنصرية كشرط أساسي لتحقيق مشروع «دولة مزدهرة» تنتمي الى مبدأ «الوسط» تطور نفسها بإستمرار من خلال نهج «ديمقراطية المعرفة والمشاركة»، والعمل بجدية لإقحام جيل جديد من السياسيين الشباب قادر على التواصل مع الواقع بوعي ومنفتح على تجارب الآخرين، جيل من الذين لم يتلوثوا بالطائفية السياسية السادية ولم تصبه عدوى مازوشية الذل، الإحباط، وفقدان الإرادة، التي تدمر الكفاءات. والعمل بكل قوة لإنتاج تجمعات سياسية جديدة مستقلة وفاعلة.
آن أوان تعاون وتكامل كل الوطنيين المؤمنين من المحافظين على قيمهم الوطنية والإنسانية والدينيّة الجامعة، المستثمرين بغنى التنوع الطائفي والمناطقي، المراهنين على الإستفادة الطاقات المتنوعة للبنانيين في الداخل والخارج.
بعد مرور مئة عام على عمر الكيان اللبناني، آن أوان دفن النظام التحاصصي الطائفي بدلًا من دفن الكيان اللبناني، فالطائفية السياسية السادية ماتت وتحللها الطبيعي يتسبب بقتل الدولة و»إكرام الميت يكون بدفنه»، بما يمهد للإنتقال إلى مشروع دولة المواطنية السياسية العادلة، وليقم من يؤمن بمفاهيم «الوسط» وبديمقراطية المعرفة والمشاركة، بدوره التاريخي لإعادة الحياة الى هذه الدولة وتحقيق ازدهارها عبر حسن تطبيق الدستور وفق ميثاقية مقدمته التي تتكلم عن السيادة، هوية لبنان العربية، الإعتراف بالمواثيق الدولية وميثاق الجامعة العربيّة، العدالة، الإنماء المتوازن للمناطق وغيرها.
ليكون هذا النموذج هو النقيض الطبيعي للكيان العنصري المحتل في فلسطين، ولننشر معًا «قيم المواطنية» لإعلاء شأن الإنسان في كل شرقنا الغالي على قلوبنا، وفتح باب تفاعل شعوبنا مع بعضها البعض بحرية ومسؤولية، وفق نظرة مستقبلية تجيد الإستثمار بطاقات شبابنا الهادرة، وبثروات بلادنا الهائلة.
إن تكاثف وتكامل كل هذه المكونات يسمح باتساع مساحة وعي نبذ شعوذات «الطائفيّة السياسية السادية» التي دمرت البشر والحجر، وفتح باب نور بناء دولة الحقوق المدنيّة الراعية بمؤسسات حديثة، لتكون مقدمة الدستور وحدها هي ميثاقيتنا السياسية الجامعة.

*  دكتور في التنمية الإقتصادية
وخبير في تحليل وإدارة الأنظمة