من العراق، كانت البداية، انهار هذا البلد، فتدحرجت «كرة النار»، لتحرق المنطقة. أربعة حروب كانت كافية، لأن تحيل العراق إلى ركام سياسي واقتصادي وعمراني. الحرب الأولى، شنّها صدّام حسين ضدّ الجمهورية الإسلامية في إيران. اعتمد في حربه على عملية دفع مفتوحة من الغرب إلى العرب. وحده الرئيس الراحل حافظ الأسد عرف كيف يكون مثل «المنشار»، وكيف يقضم من «خشب» إيران والدول العربية المعادية لها، وصولاً إلى الولايات المتحدة التي استفاقت على ضياع «درة تاجها» الشرق أوسطي من بين يديها، وفي قلب ذلك أوروبا الغربية وتحديداً فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
انتهت الحرب مع إيران، وخيّل لصدام حسين أنه أصبح القوة التي لا تُقاوم ولا تقدّم التنازلات، فاجتاح الكويت، ثم بدأت الحرب الثانية التي شارك فيها الأسد بقوة رمزية منحت الأميركي الشرعية في الحرب ضد العراق. ولم يطل الوقت على الهزيمة الأولى، حتى أطلت الهزيمة الكبرى التي انتهت بإعدام صدّام حسين. وبالكاد لملم العراق جراحه، وبدأ يحسب الحسابات لأطماع الأميركي فإذا به يقع فريسة لإيران ومن ثم للإرهاب الأسود الداعشي. ولم تنتهِ الحرب عملياً حتى الآن وإن كانت تباشيرها قد تأكدت وما الانتخابات التشريعية التي جرت سوى الشعلة التي أنارت طريق العودة.
هذه المقدمة التاريخية، أكثر من ضرورية، لتقدير أهمية هذه الانتخابات التي تؤكد نتائجها حتى الآن تراجع «شظايا» «حزب الدعوة»، الذي مزق العراق معه بفساد قياداته وأطماعها التي شكلت «محدلة» لا تتوقف من جنوب العراق الى شماله.
نتائج الانتخابات التشريعية، وإن لم تخرج من «عباءة» إفرازات الحروب السابقة، إلا أنها تؤشر الى أن «ثغرة مهمة قد وقعت في «الجدار» الذي سوّر العراق، وأن العراقيين في طريقهم إلى تنفس بعض «الأوكسجين» الذي يمنحهم الكثير من الأمل بإنجاز التغيير الحقيقي.
مأساة العراق ليست فقط في التدمير الممنهج الذي وقع عليه وفيه. المأساة الحقيقية، في حصول اجتياحين سياسيين مع وجود عسكري “استشاري” أميركي وإيراني. حتى الآن وربما لسنوات طويلة، سيستمر التنافس بين «المندوبين الساميين» الأميركي والإيراني على النفوذ في السلطة قبل أن تُعلن النتائج الرسمية للانتخابات، بدأ الأميركي بريت ماكغورك المبعوث الشخصي للرئيس ترامب والجنرال الإيراني قاسم سليماني، كل منهما على حِدة، لقاءات مع القيادات الحزبية. كل واحد يريد أن يشد «سجادة النظام» باتجاهه.
في الواقع تغيّرت تركيبة «سجادة النظام» لكن ليس بشكل حاسم، يمكن تشكيل الحكومة. عدد المقاعد التي حصل عليها قادة الأحزاب شبه متقاربة فإذا كان السيد مقتدى الصدر المنتصر الحقيقي قد حصل عى 56 مقعداً مع حلفائه في «سائرون» فإن العبادي والعامري حصلا على عدد متقارب جداً من النواب. أما الخاسر الحقيقي في هذه الانتخابات فهو نوري المالكي، رمز الفساد في السنوات السابقة.
مبدئياً، السيد مقتدى الصدر هو الذي سيتولى تشكيل الحكومة أو من يسميه. لكنه بحاجة إلى جمع 165 نائباً على الأقل حتى يُعلن حكومته. الصدر كان حاسماً فهو يريد تشكيل حكومة تكنوقراط، وهو غير مستعد لتقديم تنازلات لكل من المالكي والعامري. باختصار، إنه ضد حكومة وليدة «خلطة العطار».
نجاح الصدر في إبعاد المالكي والعامري (الحشد)، يعني توجيه ضربة قاسية لإيران وللجنرال قاسم سليماني. منذ الآن عادت طهران للإشادة بالسيّد مقتدى الصدر وعدائه للأميركيين. أي أنه لا يعاديها. في الواقع مقتدى الصدر، أحدث منذ فترة تحولاً مهماً في موقفه. فهو بادر إلى تلبية التوجه السعودي في العودة إلى العراق. لا شك أن هذه العودة فتحت أبواب الفوز أمام الصدر، وبالتالي أمام رسم بداية جديدة للعراق قد تكون متى اكتملت فاتحة لبدايات جديدة في العالم العربي.
الجنرال قاسم سليماني، يريد ويعمل على تطويق فوز الصدر، بإدخال قائد «الحشد» الذي عمل معه في الائتلاف الجديد. سليماني يعتقد أن تطعيم الصدر بـ«الحشد» وقائده العامري، يطوق التقدم الأميركي والأهم بالنسبة له الاختراق السعودي – العربي.
أمام السيد مقتدى الصدر والعراق تسعون يوماً لصياغة التحالف الذي سيُدير العراق والذي قد يرسم عملياً طريقاً جديدة للعراق ولكن أيضاً لكل المشرق العربي.
مقتدى الصدر، وإن كان على تباعد مع إيران وتقارب مع السعودية، ليس أميركي الهوى فهو كان الأول في مواجهة الأميركيين يوم كان «حزب الدعوة» بكل تكويناته التي انشقت وتشظّت في ما بعد، الأول في الوقوف مع الأميركي. لذلك نجاح الصدر سيكون بداية لنجاح التوجه العراقي السليم خارج الهيمنتين الإيرانية والأميركية.
لا يعني ذلك أنّ التغيير سيبدأ بعد تسعين يوماً لكن على الأرجح أن البداية ستنطلق من بغداد عاجلاً أم آجلاً.
موقع العراق يجعله حلقة مركزية في صياغة مستقبل سوريا أساساً وفي وضع حد للتمدد والنفوذ الإيرانيين، بالتحالف مع طرف عربي وليس أميركياً.