لم يعرف الشعب اللبناني كيف يحافظ على احزابه ويصونها. في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، كان هناك حزبان يتنافسان على رئاسة الجمهورية. أحدهما برئاسة اميل اده والآخر برئاسة الشيخ بشارة الخوري.
كان الحزبان نشيطين في الحياة السياسية وقد تنافسا بشدة في الانتخابات النيابية التي جرت في العام 1943. في تلك السنة، فاز الحزب الدستوري برئاسة الشيخ بشارة الخوري، حليف رياض الصلح في معركة الاستقلال. ولا زلت أذكر تلك الأيام وأنا في الثانية عشرة من عمري أعيش في بيئة سياسية نيابية، ذلك ان عمي لوالدي رشيد يوسف بيضون كان قد دخل المعترك السياسي وترشح عن الجنوب في العام 1937 وفاز بالنيابة، ثم ترشح عن المقعد عينه في العام 1943 وفاز به أيضاً. اما جدي الحاج محمّد يوسف بيضون فقد ترشح في الدورة عينها عن المقعد الشيعي في بيروت وفاز به ايضاً.
لقد عرفت الحياة السياسية في ذلك الزمن ما يسمى بالمرجعيات السياسية. من تلك المرجعيات السادة صائب سلام وعبد الحميد كرامي وكمال جنبلاط وريمون اده، على سبيل المثال. الا ان صائب سلام قد تميز عنهم بأنه عمل كزعيم عربي الى جانب زعامته اللبنانية. كما نراه، سنة بعد سنة، يقوم بجولة على الدول العربية، بدأ من المغرب ومروراً بسائر الدول العربية في شمال افريقيا وصولاً الى دول الخليج العربي. والى هذه كانت له ايضاً جولات في بعض الدول الاوروبية. ولا ننسى بالمناسبة، زيارته الى الولايات المتحدة الاميركية ولقائه مع رئيسها رونالد ريغان في البيت الابيض.
لقد كانت بين عائلة سلام وعائلتنا علاقات اجتماعية وكانت اسرتينا تتبادلان الزيارات. ومن خلال هذه العلاقات تسنى لي ان اتعرف على صائب سلام. الا ان هذه العلاقة قد توثقت عقب الانتخابات النيابية التي حصلت في العام 1972. في ذلك العام، ترشحت للنيابة عن المقعد الشيعي في بيروت الثانية التي كانت تضم في دائرتها مناطق الباشورة وزقاق البلاط وعين المريسة. ترشحت في لائحة كانت تضم الى جانبي المرشح عن المقعد السني النائب في حينه عدنان الحكيم والمرشح عن الاقليات ابراهيم شماس. وبما انني كنت الوحيد الذي فاز عن تلك الدائرة، فقد بادرت بمقابلة الرئيس صائب سلام الذي ترشح وفاز عن احد مقاعد السنّة عن الدائرة الثالثة وقلت له: «دولة الرئيس الانسان ضعيف بنفسه قوي بأخيه». وبما انني كنت الوحيد الفائز في الدائرة الثانية، فاني أمد يدي الى يدك راجياً إعتباري كواحد من الفائزين على لائحتك. رحب الرئيس سلام بمبادرتي بطبيعة الحال واعتبرني نائباً في كتلته التي كان تضم حينها سبعة عشر نائباً. الف الرئيس سلام حكومته بعد انتهاء الانتخابات واختار بعضاً منهم وكان ذلك سبباً بدفع البعض الآخر الى الانفصال عن الكتلة ظناً منه ان حظه من التوزير هو افضل له من البقاء فيها. اما أنا، فلم اتأثر مطلقاً لعدم توزيري، فكرامتي أبت عليّ أن أطلب شيئاً لنفسي، فضلاً عن ان الرئيس سلام كان يعاملني كواحد من أبنائه.
لقد تعرفت على الرئيس سلام، وبفعل قربي له، تعرفت عليه كإنسان وتعرفت عليه كمواطن ثم كرجل سياسي. كان فعلاً زعيماً تنبع الزعامة من داخله، فدارته كانت قبلة لأهل السياسة واستمرت كذلك معه. ما اكتشفته عنده هو شغفه للقراءة، فالكتاب دائماً الى جانبه، في الدار الواسعة حيث يجلس وفي الصالون الصغير المجاور لها، وفي مكتبه وفي غرفة نومه.
كان الرئيس سلام يتقن الانكليزية بطلاقة. فقد تعلم في انكلترا واخذ الكثير من عاداتهم وثقافتهم. كان يستمع يومياً الى اذاعة لندن باللغتين الانكليزية والعربية ليكون على بينة من الأحداث المحلية والعربية والدولية، لما بين بعضها البعض من تداخل او ترابط.
وبما ان الحديث يتناول صائب سلام ودار المصيطبة، فلا بد من ذكر شبله اخي تمام سلام الذي نشهد له نجاحه في ابقاء دار المصيطبة داراً مفتوحة على الجميع واستمراره في خط ابيه المعتدل صاحب القول المأثور «لبنان واحد لا لبنانان».
أكتب ما سبق وفكري يذهب الى الاوضاع التي نعيش، فتتكشف امامي امور منها انه لم يعد لنا من مرجعية نلجأ اليها عند الشدائد والازمات. كان صائب سلام في الحالات هذه لا يهدأ فهو على اتصال مستمر مع الداخل ومع الخارج. يتحرك كمسؤول عن البلاد والعباد أكان في الحكم او خارجه. اقول هذا والأسى يغمرني، ولولا املي بأن التغيير ممكن لكان اليأس قد تملكني. وتأخذني الذاكرة بالمناسبة الى مقال نشرته لي جريدة «لسان حال» الغراء في العام 1974 تحت عنوان: «اكاد أن أيأس» ختمته بهذه العبارة: «كدت أيأس ولكنني لن أيأس».
نعم، لن أيأس طالما في بلدي رجال وفي عروقي دم يجري وفكر في عقلي يتفاعل مع الأحداث.
لبناننا، نحن لك، نحن أمامك بك نعتز وبك نفتخر.
* نائب ووزير سابق