IMLebanon

سعيد عقل: القصيدة والخطيئة

في حياته المديدة وفي وفاته، أثار سعيد عقل مشاعر متضاربة بين العرب، أكثرها، مثله، من طبيعة الحد الأقصى. معظم الغاضبين كانوا من الفلسطينيين الذين لم ينسوا له تلك الجملة التي أطلقها خلال حرب لبنان: «على كل لبناني أن يقتل فلسطينيا»، وأبرز الغافرين له كانوا فلسطينيين، وهو الذي غنى القدس بأجمل الشعر: «عيوننا إليكِ ترحل كلَّ يوم».

ومضى الروائي إلياس خوري، أحد الحراس الأدبيين للقضية، إلى أبعد من ذلك، فبعدما عرض للسحر البياني في شعر سعيد عقل، تجاوز مواقفه السياسية ليعفيه من الإثم، قائلا إن الشعر يغفر للشاعر. وكان الرئيس محمود عباس، الحاكم العربي الوحيد الذي أبرق معزيا بالشاعر. واعتبر البعض ذلك خطوة في منتهى الحنكة والسماح، بينما اعترض مفكّرون فلسطينيون على أنه لا يحق له العفو باسم جميع الفلسطينيين.

عاش سعيد عقل قرنا من الشعر والفكر والتأريخ للبلد الذي هام به. بدأ حياته عضوا في الحزب السوري القومي الذي لا يؤمن بوجود لبنان خارج سوريا الكبرى، وخرج منه بعد عامين (منتصف الثلاثينات)، ثم وضع نشيد «العروة الوثقى» لحركة القوميين العرب من أجل طالبة في الجامعة الأميركية هي الراحلة ليلى طنوس: «العلا والعرب/ ولنا القول الأبي/ والسماح اليعربي».

لكن كما خرج من القومية السورية، لم يطل به المقام في القومية العربية، فقام بهجرته الأخيرة إلى القومية اللبنانية، مستعيدا أمجاد صيدا وصور، ساعيا إلى استعادة فينيقيا وعلمائها وأبجديتها الأولى: «لي صخرة علقت بالنجم أسكنها/ طارت بها الكتب، قال تلك لبنانُ/ أهلي ويغلون يغدو الموت لعبتهم/ إذا تطلع صوب السفح عدوان».

هل مكة والقدس والأندلس والشام، مجرد صياغة في شعر سعيد عقل؟ لا يعقل، يقول الناقد جهاد فاضل، لا بد أنه عندما غنّى العروبة كان في حالة افتتان بها. هو لم يزيف، لكنه انتقل من مرحلة إلى مرحلة، وفي كل مرحلة كان يسلم نفسه كليا للحب أو الغضب، وفقا لفاضل في «القبس».

لم أكن من محبّذي غلوّه، خصوصا في العودة إلى لبنان الأساطير والأحافير القديمة. وكنت أعتقد أن ذلك يترك أثرا خياليا سلبيا في عقول الجيل. وعندما دعا إلى العنف في مواجهة الثورة الفلسطينية، رأيت في ذلك نتاجا سيئا لما كنت أخشاه. يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره في القصيد، أما نكران العروبة والتنكر للجذور، وخصوصا للماضي، فقضية غير خاضعة للشعر ولا للأوزان، وإنما للتوازن الوجداني والفكر الوجودي. مذ كنت شابا لم أشعر بالقربى من سعيد عقل. حفظت شعره فتى ورددت قصائده مع أترابي، لكنني ما لبثت أن رأيته يكتب في الصحافة مقالات دون مقام الشعر ولا أهمية لها في النثر. واجتذبته الصحافة اليومية بغير داع أو وجه حق، لكي تروِّج لنفسها، دون قناعة حقيقية بما يكتب، أو بما تنشر.

إلى اللقاء..