عاش سعيد عقل مائة عام في تقشف. عندما زاره الزميل محمد أبي سمرا (ملحق «النهار») قبل عشرين عاما في ضاحية فرن الشباك، وجد منزلا بسيطا لا أثر فيه لغير الوسائل الضرورية.. أثاث عادي، وآلة طابعة عربية. ولم تكن للرجل حياة اجتماعية، فقد عرف عنه أنه ينام في التاسعة ليلا ويصحو إلى عمله في الثالثة فجرا. لا شيء سوى العمل، مثل معظم الأدباء والكتّاب.. فلم يكن تولستوي، أو فيكتور هيغو، أو سولجنتسين، يستقبلون أبناءهم إلا في موعد محدد من النهار، لا يتعدى نصف ساعة.
كان سعيد عقل يرفض إعطاء مقابلات عن حياته الشخصية، ولذا، قال لمحمد أبي سمرا والشاعر عباس بيضون، عندما حاولا طرح الأسئلة حول سيرته: «سيرة الأدباء تافهة بالمقارنة مع نتاجهم الأدبي. والصحافة تافهة أيضا. هذا حكي جرايد، ورؤوسكم محشوة بحكي الجرايد». وعندما سُئل عما إذا كان قد ذهب إلى مدينة صور مؤخرا أجاب: «أنا ما لي ولصور اليوم. أنتما لا تريان إلا البشاعة. لقد أكلتكما الصحافة. أريد أن أنفض من رأسيكما أقوال الصحافة وأوساخها لترتفعا إلى الفكر المحض الخالص. يجب عليكما أن تقولا إن صور جميلة وعظيمة».
يختصر محمد أبي سمرا الشاعر بهذه الأسطر: «كان كليفا مشغوفا، بل مسكونا بحضوره النجومي؛ شعريا وأدبيا وفكريا، وقادرا على توزيعه بمفرده، في دوائر وأوساط تتجاوز دوائر الثقافة والكتّاب والمثقفين والشعراء وأوساطهم، إلى أوساط الطلاب والعامة من الناس. كان مفتونا بالمناظرات وبالوقوف على المنابر، محاضرا، مساجلا، ملقيا أشعاره في حال من الامتلاء بنفسه وأدواره وحضوره وأفكاره امتلاء كاملا غير منقوص».
من أي باب سوف يدخل سعيد عقل التاريخ ومن أي باب سيخرج؟ لقد تركه النقاد في الباب الدوار. البعض لم يرَ فيه سوى سياسي فاشي وعنصري، والبعض الآخر رأى فيه عمودا من أعمدة الشعر المعاصر، ألصق على نفسه تشويهات سياسية لا تزول. المفاجئ، بالنسبة إليَّ، أن يكون سعيد عقل معروفا إلى هذا المدى في العالم العربي، ليس كـ«فاشي» وإنما كشاعر. فقد كنت أعتقد أنه أسر نفسه بيديه في سجن القومية اللبنانية والدعوة إلى العامية اللبنانية والحرف اللاتيني، لكن عربا كثيرين رموا كل هذه الحواشي جانبا ودخلوا إلى طاقته الشعرية التي لم يبلغها لبناني في القرن العشرين. أقول ذلك مترددا، فلعلني على خطأ. وأعترف أنني عدت إلى قراءة شعره بعد وفاته، وهو ما كنت أحيد عنه من قبل، لأنني، مثل كثيرين، لم أكن أفصل بين نرجسيته وشخصانيته وبين فنونه الشعرية. وقد يصعب على البعض أن يفصل بين شاعريته القصوى وبين خفته القصوى في النظر إلى قضايا سواه.