عندما كان يطرح موضوع إلغاء الطائفية السياسية في لبنان، كان البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير يردّ بأنّ المطلوب إلغاؤها من النفوس قبل النصوص. ما حصل عند شاطئ صيدا حول عدم حقّ النساء بالسباحة بالمايوه أعاد تأجيج الجو الطائفي في النفوس وفي النصوص خصوصاً أنّ هذه الواقعة تأتي بعد جو الإنقسام الكبير حول ساعة الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي بينما يشتدّ البحث عن رئيس للجمهورية يسبح بين بحر صيدا وقصر بعبدا.
في ظلّ جوّ كهذا أين يمكن أن يسبح رئيس الجمهورية؟ وأي مايوه يمكن أن يرتدي؟ وهل يمكنه أن يصطحب زوجته وبناته وأخواته وقريباته وصديقاتهن إلى شطّ البحر في صيدا للسباحة؟ أم أنّ عليه أن يكتفي بدعوتهن إلى مسبح القصر الجمهوري في بعبدا؟
السؤال ينطلق أيضاً من التحدّي الذي يمثّله هذا الواقع الذي جرت محاولة فرضه على الأرض بقوة أنّ «الشعب» من أبناء المنطقة يريد ذلك. أو أنّ هذه المنطقة لها خصوصياتها، أو أنّ من أراد أن يسبح عكس هذا التيار، رجالاً ونساء، فليذهبوا إلى مناطقهم أيّا كانت طوائفهم. والدعوات الصادرة بهذا الإتجاه تكشف حقداً مذهبياً وطائفياً موغلاً في الجهل وفي التعاطي مع التطور والواقع. وتكشف أيضاً أنّ ما في النفوس غير ظاهر دائماً وبحجمه الطبيعي إلى العلن، وأنّ ما يظهر منه في مناسبات كهذه مخيف ومرعب ولم يكن موجوداً حتى في أيام الحرب.
رئيس لكل منطقة؟
أخطر من ذلك. الخطاب لا ينحصر بالجانب المناطقي وهويته الطائفية بل باعتبار أنّ من لا يوافق على مثل هذه الطروحات كافر وأنّ «من يسكن بيننا يجب أن يحترم عاداتنا وتقاليدنا» وبالتالي «هذه مناطقنا وهويتنا وهذه قوانيننا، ولكم مناطقكم وهويتكم وقوانينكم فعيشوا فيها وطبّقوها».
في ظلّ ما أثارته هذه القضايا، من «الساعة» إلى «المايوه»، أيّ رئيس للجمهورية يناسب هذا الوضع وأيّ رئيس يجب أن يُنتخب؟ إذا كان رئيس بلدية صيدا ووزير الأشغال العامة والنقل، بغضّ النظر عن اسميهما، هما اللذان غطّيا موقف الرافضين للحرية الشخصية والمايوه وزايدا عليه وشكّلا تجاوزاً للدستور الذي يحمي حرية الفرد وإيمانه وممارسة شعائره الدينية، فعن أيّ رئيس يمكن الحديث؟ هل يجب أن يُنتخب رئيس لكل لبنان؟ أم يجب أن تنتخب كل منطقة رئيساً لها؟ ولماذا الربط بين الصلاة في فاريا مثلاً وبين السباحة في بحر صيدا أو غيرها؟
قبل صيدا حصلت أمور مماثلة في مناطق أخرى رفضاً أيضاً للسباحة بالمايّوه ولشرب المشروبات الروحية. والخطاب الديني التعصّبي الذي يكشف عن نفسه ليس مجرّد رأي شخصي بل حالة عامة لها قادتها ومؤيدوها والمؤمنون والمؤمنات بها. والكلام الذي يصدر عن هؤلاء يعيد الواقع اللبناني إلى عصور خلت وتخلّى عنها من كانوا يتبنّون فيها هذه النظريات التي تعني العيش في كنف الأكثرية الدينية ودفع الجزية والذمية. ومع أنّ هؤلاء يعرفون أنّ مثل هذا الأمر لا ينطبق على لبنان ولا على أيّ منطقة فيه، إلّا أنهم يظهرون أنفسهم بكل حرية وقوة ويتغطّون بمواقف رسمية متجاهلة أو متواطئة أو مستسلمة أو مقتنعة.
لم يتنطّح عدد من الذين تُطرح اسماؤهم كمرشحين لرئاسة الجمهورية إلى مقاربة هذا التحدّي والردّ عليه. أي رئيس للجمهورية يجب عليه أن يبدأ من هذه المواجهة. هل يوافق على ما حصل أم أنّه يرفضه وما هو رأيه؟ هل يعطي لكل منطقة حرية التصرف بما ترى أنّه يتطابق مع هويتها؟ أم أنّه مع أن يكون القانون مطبّقاً بالتساوي والعدل على كل المناطق؟ لماذا يصمت المرشح سليمان فرنجية عن هذا التحدّي كما سكت قبله عن موضوع تغيير الساعة وكما سكت عن موضوع إطلاق الصواريخ من الجنوب على إسرائيل بعد عودته من زيارته إلى باريس ومطالبته بتقديم توضيحات لبعض ما طلب منه؟ ولماذا أيضاً لم يعلق على موضوع مناورة «حزب الله» العسكرية التي تشكّل الوجه الآخر لأزمة المايوه في صيدا؟
أسرى القصر الجمهوري
قبل الحرب كان الرئيس كميل شمعون مثلاً يستطيع أن يركب سيارته ويتوجّه إلى الصيد في الهرمل أو في البقاع الغربي أو في كسروان وغيرها من المناطق. وكان يستطيع أيضاً وبينما كانت المعارضة تحضّر لأحداث 1958 وتأتي بالمتفجّرات من سوريا وتفجّر الجسور، كان بإمكانه أن يفجّر أول عبوة في مشروع الليطاني وسدّ القرعون إيذاناً ببدء العمل فيه، وهو مشروع لم يكن في جبيل أو في الشوف أو في كسروان. وكان بإمكانه مع زوجته السيدة زلفا أن يفتتحا مهرجانات بعلبك وأن يعودا إلى منزلهما من دون مواكبة وقطع طرقات.
منذ الحرب تحول القصر الجمهوري في بعبدا إلى ما يشبه السجن. كان الرئيس شارل حلو الأول الذي شغله قبل أن يسكنه خَلَفُه الرئيس سليمان فرنجية. كان بإمكان الأخير أن ينتقل بين بعبدا وزغرتا أو أهدن من دون خوف ومن دون أن تكون هناك مواضيع خلافية حادة بخلفية طائفية. ولكن منذ ذلك التاريخ تحوّل هذا القصر إلى ما يشبه اللعنة أو خطر الموت أو العيش مع هذا الخطر. اضطر فرنجية إلى مغادرته بعد تعرضه للقصف، وإليه دخل الرئيس الياس سركيس وكان عليه أن يعيد تنظيفه وتجهيزه ومحو آثار الحرب عنه. ولكن تلك الآثار كانت انزرعت في النفوس خارج القصر الذي تحاشى وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون اقتحامه في اجتياج 1982 ووقف عند بواباته وبقي سركيس متحصّنا داخله.
لم يستمع الرئيس المنتخب بشير الجميل إلى نصيحة سركيس ومدير المخابرات وقتها العقيد جوني عبدو بالإقامة في القصر، تلافياً للتهديد الذي تعرّض له، ودفع حياته ثمناً لهذا التسليم بالإرادة الربّانية. بعده دخل أمين الجيل إلى القصر على أنقاض رئاسة حزينة وعلى وقع التهديدات باحتلال هذا القصر بعد جولات معارك 1983 و1984 و1985. وسلّم القصر في نهاية ولايته إلى الفراغ وحكومة العماد ميشال عون. مع أن الجميل غامر مرّة وذهب إلى صيدا بعد الإنسحاب الإسرائيلي.
متى إعادة ترميم الجمهورية؟
مرة ثانية تدمّر القصر خلال حرب التحرير التي خاضها عون. ولاحقت لعنته الرئيس رينيه معوض الذي اغتيل أيضاً وهو ممنوع من الوصول إلى القصر. ثلاثة أعوام أمضاها الرئيس الياس الهراوي في مقرّ الرئاسة الموقت في الرملة البيضاء، قبل أن يعود إلى القصر بعد ترميمه ولكنّه بقي متنقلاً بين قصر بعبدا وقصر المهاجرين ومسقط رأسه في زحلة من دون ترميم الجمهورية التي سقطت في عهد الوصاية. مثله اكتفى الرئيس إميل لحود مقيماً بالتكليف في بعبدا وعلى رغم أنّه كان الرئيس الذي اختاره حلف الممانعة السورية الإيرانية، إلا أنّه لم يكن ليخرج كثيراً من القصر إلا للسباحة في النادي العسكري المقفل في بيروت أو في الكسليك، أو في المسبح الخاص به في وسط بيروت.
عندما عارض الرئيس ميشال سليمان «حزب الله» أرسل له رسالة واضحة من خلال استهداف القصر بالصواريخ. من فرنجية إلى سركيس والجميل وعون والهراوي ولحود وسليمان لم تكن المناطق اللبنانية تستقبل الرؤساء إنما كان الجوّ المشحون طائفياً هو الذي ينمو تحت الأرض. لم يعرف أيّ من الرؤساء تجربة أن يتحرّك في أي منطقة من دون حماية أو مواكبة أو حراسة. وكأنّ الرئيس، أيّ رئيس، صار أسير الرفض الشعبي أو الهاجس الأمني أو القلق الذي دخلت في عالمه الجمهورية اللبنانية. وسط تلك الأجواء شكلت انتفاضة 14 آذار ثم ثورة 17 تشرين استثناء لم يتم البناء عليه وطنياً وتمت محاربته من قبل محور الممانعة.
عندما لا يستطيع رئيس للجمهورية أن يغادر القصر الجمهوري بارتياح، فهذا يعني أنّ الجمهورية ليست بخير. حتى الرئيس العماد ميشال عون الذي أتى بقوة تفاهمه مع «حزب الله» وبعد تعطيل الإنتخابات طوال عامين ونصف، لم يكن ليخرج من القصر حتى إلى مسقط رأسه في حارة حريك، أو إلى الجنوب ولم يقم بجولة على الحدود التي طالما قال إنه يعرفها جيداً. أقصى ما فعله ركب الباخرة التي أتت للبحث عن النفط في البحر وكأنه يشارك في فيلم دعائي، قبل أن يغادر القصر في 30 تشرين الأول الماضي في موكب أمني كبير إلى دارته الجديدة في الرابية.
الرئاسة والصراع على المايوه
تحوّلت عملية انتخاب رئيس الجمهورية إلى ما يشبه الصراع على مايوه بحر صيدا. يختار الشيعة مرشّحهم إلى رئاسة الجمهورية. يكتفي المرشح المختار بهذا الإختيار ويجلس منتظراً أن يأتوه بالنواب لينتخبوه. ثم ينتظر مع من رشّحه بلورة الطرح المقابل بأن يختار المسيحيون مرشّحهم الرئاسي. عند انتخاب عون كان المطلوب رئيساً يمثل طائفته وعنده قوة شعبية. حتى هذا الرئيس بقي أسير «حزب الله»، ولم يستطع أن يُخرج الرئاسة من قصر بعبدا إلى الأفق الأوسع، ولم يستطع أن يتجاوز مسألة بحجم مسألة مايوه بحر صيدا. لم يسبح عون عكس تياره وتيار «حزب الله»، ولكنّه ايضاً لم يسبح في بحر لبنان الواسع. أغرق الجميع في هوة الإنهيار والدمار النفسي والسياسي والمالي والإجتماعي. ما حصل في صيدا وفي عرمتى خلال مناورة «حزب الله» العسكرية ليس إلا نتيجة هذا الإنهيار. عندما لا تعود هناك دولة ومؤسسات تنتصر الدويلات سواء أكانت بحجم دويلة حزب الله أو بحجم دويلة بحر صيدا ومايوه رئيس البلدية ووزير الأشغال.
لعنة القصر فيها شيء من الحقد التاريخي على الحضور المسيحي في لبنان والمنطقة. هذا الحقد يظهر في تصرفات بعض المتشدّدين عند شاطئ صيدا كما في خطابات رجال دين من غير طائفة هؤلاء لا ينظرون إلى الحضور المسيحي إلا على خلفية أنه آفة في التاريخ وتافه وعميل للإستعمار والغرب، وأنّ التاريخ في لبنان بدأ مع «حزب الله». وتظهر أيضاً في الخطاب الذي يتعاطى مع المسيحيين في لبنان وكأنهم طائفة دونية ولا يستحقّون الإحتفاظ بما تبقى لهم من حقوق.
ولذلك يتمّ تهديدهم كل مرّة بالعدد وبالأكثرية وبالأقلية، وبالسحق ورفض اللامركزية أو الفدرالية. وكأنّ المطلوب منهم ألًا يسبحوا في بحر صيدا وأن يتخلّوا عن بحورهم حتى لا يأتي إليها من هم من غير مناطق. ومن هذه الخلفية أيضاً يمكن فهم استباحة السرّاقين والقتلة ومروجي المخدرات للمناطق المسيحية على خلفية أن حيط هذه المناطق بات أوطى من أن يتمّ الوقوف عنده. فهل يقبل الرئيس، أي رئيس، بشروط بحر صيدا؟