عيد “بيّ الطايفة” اليوم
بكركي المقاومة
مسيحيون؟ موارنة؟ مقاومون أنتم منذ بدايات التكوين وفي توقٍ مستمرّ إلى الحرية. لديكم عتب على أشياء وأشياء؟ هذا حقّكم. منتفضون على الظلم؟ الكنيسة وقفت دائماً أبداً عند خط الدفاع الأوّل عن الحريات والوجود والقيَم والحقّ والإنفتاح على الآخر. إصطدمتم بأبالسة كثيرين؟ إنسوا، تجاوزوا ما رأيتم من خطايا، واصمدوا على خطى يوحنا مارون، فأنتم اليوم في آخر معقل للمسيحيّة الحرّة في هذا المشرق فإما أن تكونون أم لا. قاوموا بعد. ولا تبالوا بالمتفلسفين. أصمدوا، واقرأوا في صفحات تاريخكم الغني بالمقاومة منذ البدء. وصلّوا. صلّوا أكثر إلى شفيع الموارنة يوحنا مارون وإلى الشهيد الأرثوذكسي القديس ديمتريوس وإلى مار يعقوب السرياني. صلوا إلى الربّ وقاوموا. المقاومة الحقيقيّة من صلبِ الحياة المسيحيّة. فماذا عن الرهبان المقاومين في لبنان؟
اليوم، في التاسع من شباط، أكثر من يوم عطلة مشمس. اليوم عيد القديس مارون، «بيّ طايفة» الموارنة. نتجه صوب إيليج، نقصد عنايا ولحفد وحملايا ونقصد دير يوحنا مارون في كفرحيّ… هي مطارح أنجبت قديسين مقاومين. والحبل جرار. فما هي حكاية الرهبنة المقاومة في لبنان التي رفعت الإنجيل وأطلقت منه أحرفاً من ذهب ونور؟
أباء وشهود
الأباتي بولس نعمان واحد من هؤلاء وشربل القسيس والياس الحويك وميشال حايك وتوما مهنا وسليم عبو ومار نصرالله بطرس صفير وبطرس قزي… وهناك أيضا يعقوب البدوي ورهبان آخرون لا يحصون. فلماذا نتذكرهم كثيراً في عيد مارمارون؟ نتذكرهم لأن الكنيسة بُنيت منذ البدء على صخرة وأبواب الجحيم لا ولن تقوى عليها وهؤلاء قاوموا باسم المسيح وتعاليمه.
يا الله كم شهدت الكنيسة في هذا المشرق بالتحديد من تحديات. حين نسترجع مسيرة الأباتي بولس نعمان وخطاه ندرك عمق المشهد المقاوم المسيحي. هو كان شاهداً في حزيران عام 1966 على الصدام المسلح الأول بين الجيش اللبناني والفلسطينيين وقيام تنظيمات فلسطينية مسلحة بتدريبات في مناطق آهلة وعن نيتها في خوض عمليات فدائية ضدّ إسرائيل من لبنان. نمت يومها ظاهرة التسلّح عند الفلسطينيين التي كانت تحذر منها الأوساط المسيحية وتحولت الى واقع خطير. حدث ما حدث وبات صعباً ضبط الوضع. الكنيسة يومها قالت ما قالت والأباتي – مع إخوته – تصدوا للسلاح الفلسطيني. وكم دمعت عينا نعمان وهو يقرأ في أسماء الشهداء، شهداء المقاومة اللبنانية، المؤطرة بالغار. وهناك من لا يزال يسأل: وماذا فعل المسيحيون ليبعدوا كمّ التجارب التي مررنا بها! هم تنسكوا بالصمت والصلاة وقاوموا بالكلمة وما زالوا.
الرهبان هم من أسسوا الجبهة اللبنانية. والكسليك شاهدة. القداسة يا عالم ليست سبيلاً مفروشاً بالورود. الموارنة – والمسيحيون – أعطوا البيادر حبات قمح كثيرة.
مساحة حرية
نصغي الى الأب البروفسور جورج حبيقة، النائب العام في الرهبانية المارونية، يتحدث عن بيّ الطائفة: «إعتمدنا معادلة كيانية مخالفة لمقولة ديكارت: أنا أفكر إذا أنا موجود. إتبعنا مقولة: أنا أصغي إذاً أنا أتحوّل. مار مارون عالج قضايا كثيرة بالكلمة. هو انتفض روحياً على ذاته ليصل الى الإكتمال الروحي فلم يعد شفيع الموارنة وحسب بل كان لكل المسيحيين. أرسى الحرية والإنفتاح فانتشر الموارنة في الضيع والمناطق المختلفة. بنى الموارنة مساحة حرية لكل إنسان لا لذاتهم وحسب وطبعوا كل الشرق. وشارل مالك كتب: لبنان أمانة في صدور الموارنة. الموارنة هم من أشرس الناس دفاعاً عن التنوع لأنهم ولدوا في حضن التنوع. ولم ينظروا من منطلق أن من هو أمامهم عدو بل شريك. لم يسع الماروني يوماً ليبني سعادته على حطام الآخرين ومن خلال تهميش الآخر. الماروني أرسى فكرة لبنان الحاضن للتنوع والإختلاف وذكّر دائماً بأهمية الصمت والإصغاء: أنا أصغي إذاً أنا أتحوّل. ومار مارون إنتفض على ذاته».
أعداد الموارنة اليوم الى تناقص؟ كلام كثير وارقام وإحصاءات ومقولات عن الديموغرافيا والعددية لكن، لمن يتذكر ومن لا يتذكر، قبل مئة عام، يوم توّج الياس الحويك بطريركاً مارونياً، لم تكن الرعيّة تُشكّل أكثر من 25,6 في المئة من مجموع اللبنانيين. لم تكن الأرقام يوماً شيئاً أمام قيمة الحضور الماروني – والمسيحي – في بلدٍ لا يُشبه سواه. بلد الرسالة.
في زمن خيبات الأمل، لا يستطيع الموارنة أن يبقوا إلا إذا كانوا مثل مارون. عاش هذا الرجل ناسكاً زاهداً على قمة جبل عام 400. وحملت إسمه الكنيسة الشرقية المسيحية هي اليوم من اكبر الكنائس المسيحية في لبنان. لم يقرر الموارنة حين نشأت المارونية تأسيس دولة لهم، ميزوا دائماً بين الحصول على دولة في هذا المشرق والحصول على حريتهم. أهمل الموارنة نسبة العدد وفضلوا نسبة التاريخ والجغرافيا. إختاروا التعايش مع الآخرين في محيطهم شرط عدم المس بوجودهم الحضاري الحرّ.
الرهبان المقاومون، نراهم في مساراتنا يومياً. البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، المقاوم الذي فتح أبواب بكركي أمام المظلومين المتألمين وبقي حتى الرمق الأخير مثالاً للمارونية الحقّة و»قال ما قال». له كل الحبّ في عيد مار مارون. البطريرك بشارة الراعي يقولون: يمشي على خطى صفير. مسيرة البطاركة مثل حبّات المسبحة. ومجد لبنان أعطي لهم.
إلى المكسيك
فلنأخذ في عيد «بيّ الطايفة» مسيرة راهب ماروني مقاوم. الأب يعقوب البدوي واحدٌ من هؤلاء. هو اليوم موجود في المكسيك «يقاوم» بالحبّ فماذا عن محطاتٍ سمته – باستحقاق – الراهب المقاوم؟
توقيتاً، بين لبنان والمكسيك ثماني ساعات. نتصل به مساءً (عندنا) وهو يشرب قهوته الصباحية. نسأله في البداية عن معنى المقاومة في المفهوم المسيحي فيجيب: «إنها مقاومة الشيطان والشرّ، والمشي على درب المسيح والتضحية والإيمان والمحبة والغفران وان نكون شهوداً للمسيح في حياتِنا».
في الثامن عشر من شباط هذا ستقيم الكنيسة هناك إحتفالاً كبيرا لمناسبة عيد مار مارون وسيقام اليوم قداس في كنيسة سيدة لبنان في مكسيكو وسيضع الكثيرون أشرطة التمنيات الحمر والزرق على تمثال العذراء ومار شربل. هكذا هي العادات هناك. يصلّون ويتمنون. موارنة المكسيك مثل موارنة لبنان وكل العالم يستخدمون الصلاة فعل إيمان ومقاومة. لكن، ماذا في المحن التي فيها قاتل ومقتول؟ ماذا عن مقاومة الراهب يعقوب البدوي في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي في لبنان؟
يوحنا مارون هو شفيع الموارنة أما مؤسس المارونية فهم الرهبان والآباء في المجمع الخلدوني الذين بنوا دير مارمارون وعلموا فعل الإيمان وأسسوا الكنيسة المارونية المقاومة في صلبِ تاريخها والباباوات أعطوا لهذه المقاومة عدداً من النعوت: الكنيسة المقاومة، الوردة بين الأشواك، الصخرة في قلبِ أمواج البحر، كنيسة الشهداء. لذلك، من أوّل تاريخنا لدينا الرسالة والشهادة للمسيح والكنيسة».
ماذا عن الراهب الماروني المقاوم في الحرب اللبنانية؟
كان الأب بدوي مدير مدرسة الموسيقى في جامعة الروح القدس في الكسليك «كنت تلميذ بونا لويس الحاج مندفعاً الى اللحن السرياني الماروني». في الثالث من تموز من العام 1977 سيم كاهناً ملتزماً. ولحظة التحوّل الكبرى في حياته كانت لحظة إغتيال بشير الجميل. وفي العام 1984 إتصل به شباب من الشعبة الخامسة في القوات اللبنانية طالبين زيارته لدعوته الى خدمة قداس ذكرى الشهيد بشير موسيقياً. لقاءٌ شكّل تحوّلاً جديداً في عمر الراهب المقاوم. يقول: «حين كنت أسمع من يطلقون على الشباب الذي يقاومون لصمود المسيحيين على هذه الأرض نعوتاً غير لائقة كنت أسألهم: ومن هؤلاء؟ أخوك وأخي. إبن عمك وابن عمي. وجارك وجاري. هؤلاء يضحون لنبقى» ويستطرد: «تركت كل شيء تدريجياً «نتف نتف» وبدأت ألازم المقاومين على الارض بالصلاة. علّمت الشباب التراتيل و»جمدتهم». تنقلتُ بين الثكن ومخيمات التدريب وجعلتها مخيمات للتدريب والتهذيب. كنت أدق على «الفلوت» (الناي) فيسكت الشباب. المقاومة لها اوجه عدة عند المسيحيين. مار مارون قاوم على طريقته. الرهبان قاوموا. أنا قاومت. وهذا ما فعله الشباب الذين اضطروا الى حمل البندقية والدفاع عن الوجود».
هي تجربة جميلة عاشها الراهب يعقوب البدوي ويقول: «كنت شاهداً يوم بدأ الاباتي قسيس والأباتي نعمان في تأسيس الجبهة اللبنانية. تحرك الموارنة يوم سمعوا دين براون (مبعوث الإدارة الأميركية الى لبنان عام 1975) يدعو المسيحيين الى الهجرة. قالوا له: إذهب أنت وباخرتك الى أميركا. يومها رسم بيار صادق كاريكاتوراً عن ذلك. وهذه المحطة أثرت بي كثيراً. لا أنسى ذاك الكاريكاتور».
لكن، هناك موارنة يتمنون اليوم لو لم تفعل كنيستهم ذلك؟ يتمنون لو هاجروا الى بلادٍ تحترم الإنسان؟ يجيب: «الكنيسة لم تُخطئ. نحن، أنا وأنتِ وأنتم وجميع المؤمنين نُشكّل الكنيسة. وجودنا هنا لم يكن صدفة. نحن بنينا المدرسة تحت السنديانة والرهبان علموا وفتحوا المدارس والجامعات. وها هي جامعة الكسليك شهادة عن المقاومة المسيحية المارونية. المقاومة صلاة وثقافة وبندقية وإيمان وتهذيب. ونحن سنكمل الطريق والمشوار معاً» ويستطرد: «من جهتي، لم اخف يوماً على المسيحيين. مررنا بمراحل أكثر صعوبة. عاش أجدادنا مجازر 860 وحين أرى الشباب الماروني اليوم في المكسيك أقول لهم: أجدادكم أتوا الى هنا بعيد 860 وقبل حرب 1914. اليوم تجددت الهجرة لكننا نؤمن بأن الكنيسة صخرة ومن اعطي كثيراً يُطلب منه الكثير».
الأب يعقوب البدوي مقاوم. ليس سهلاً إستذكار الجميع «عمر المقاومة المسيحية قرون» لكن الثابت اليوم أننا نعيش عيد «بيّ الطايفة المارونية» ونحن خائفون مما يُخبئه الغد. معنا حقّ؟ طبيعي أن يقلق الإنسان ويغضب ويخاف لكن، في النهاية، من أسسوا لوطنٍ وواجهوا الرياح العتيدة وبنوا كنيستهم على صخرة وقاوموا بعناد لن يتراجعوا اليوم، بشفاعة القديس مارون، وإن كان غضبهم كبيراً.