IMLebanon

إلى أبناء مارون: كونوا أنبياء لا جبناء

 

 

يحلّ عيد مار مارون هذه السنة واللبنانيون في حال متردّية من كلّ جوانبها السياسية والإقتصادية والمالية والإجتماعية والمعيشية ما دفع بالشعب إلى المطالبة بحقوقه في العيش الكريم وإلى الإنتفاضة على طبقة سياسية غرقت منذ عقود في الفساد والزبائنية والمحاصصة والمصالح الخاصّة.

 

إزاء هذا الواقع نستحضر معاني هذا العيد ورمزية صاحبه بأبعادها التاريخية والروحانية.

 

فالعيد يدعونا إلى وقفة ضمير تكون حافزاً لتوعية كنسية ووطنية ومدعاة تأمّل ذاتي يجعلنا نعود نحن أبناء مارون إلى دعوة المسيح لنا التي شَهِدَ لها أبونا القديس مارون وتلاميذُه من بعده في عيش روحانية نسكية أظهرت قدرتها على حمل شعب على الاستمرار في مواجهة كل التحديات.

 

روحانية تميّزت في بُعدها النسكي بالعيش في العراء على قمم الجبال أو في قعر الوديان، وبالصلاة والصوم والسهر والصمت العميق والوقوف المستمرّ، والعمل في الأرض. كل ذلك في سبيل الإقتراب من الله في علاقة بنوية مباشرة معه يعزّزها العيش بين الأرض والسماء.

 

وفي بُعدها الرسولي، تميّزت بالحياة المشتركة مع آخرين من أبناء هذه الأرض ثمّ بالإنتقال منها انتشاراً في اتجاه الشرق والغرب لتأدية الرسالة الحضارية علماً وثقافة ولغة في خدمة ترقيّ الانسان والانفتاح على تعددية الانتماءات الدينية والثقافية.

 

الروحانية المارونية في بعدها النسكي روحانية تتماثل بالمسيح المعلّق على الصليب بين الأرض والسماء ليرفع البشرية إلى الله الآب بالروح القدس ويفتديها بموته وقيامته.

 

تبنّى أبناء مارون هذه الروحانية والتزموا بعيشها على مدى خمسة عشر قرناً في جبال لبنان وفي دنيا الإنتشار فكانوا رسل خير وانفتاح وحرية وتحرّر، حتى أصبح الموارنة والحرية توأمين، وأصبحت المارونية بفضلهم مدرسة قداسةٍ والتزامٍ وطنيّ وتواصل إنساني.

 

حافظوا في مسيرتهم التاريخية على ثوابت أختصرها بثلاث كلمات: الإيمان والمعول والقلم.

 

تمسّكوا بإيمانهم بالله أولاً وبذلوا ما أُعطوا من مواهب ونعم لعيش العلاقة البنوية معه بحرية تامة. واجهوا الإضطهادات والحروب والنزوحات وقدّموا الشهداء، من البطريرك الأول يوحنا مارون إلى البطريرك جبرائيل حجولا، وأنعمت عليهم السماء بالقديسين شربل ورفقا والحرديني وسائر الطوباويين والمكرّمين.

 

ارتبطوا بأرضهم إذ اعتبروها هبة من الله؛ فتعلّقوا بها وفلحوها وحولوها بضربة معدورهم إلى جنّات خير وبركة وفّرت لهم الحرية والكرامة والخبز الحلال.

 

وفي جبل لبنان التزموا مع إخوتهم المسيحيين والمسلمين والدروز بتأسيس الكيان اللبناني والذاتية اللبنانية منذ بداية القرن السادس عشر، حتى توصلوا في بداية القرن العشرين، وبقيادة البطريرك الياس الحويك، إلى الحصول على إعلان دولة لبنان الكبير، الوطن الذي يجمع أبناء ثماني عشرة طائفة في الحرية والديمقراطية والحياة المشتركة في احترام التعددية الدينية والإتنية والثقافية والسياسية ما حدا البابا القديس يوحنا بولس الثاني سنة 1992 على أن يثبّت لبنان “وطن رسالة”. أما في مجال الثقافة والعلم فحملوا ثقافة الشرق إلى الغرب وعادوا بثقافة الغرب إلى الشرق، ليفتحوا المدارس ويؤسسوا المطابع ويفيدوا شعوب الشرق من منافع النهضة والحداثة، ويقوموا بنهضة دينية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية يعترف لهم بها الجميع. وكانوا رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر والمنادين بحرية الشعوب في تقرير مصيرها في بداية القرن العشرين. وبين العودة إلى الجذور الروحانية ومواجهة الأزمات “النازلة” علينا في لبنان وبلدان الشرق الأوسط، أسمح لنفسي بوقفة وجدانية أستصرخ فيها ضمائر أبناء مارون، جميع أبناء مارون وأنا منهم، لأتساءل معهم عن الدور والمصير:

 

أين نحن اليوم أبناء مارون في مواجهة التحديات الراهنة، ومنها التراجع الديموغرافي وتدني المستوى الثقافي والإنحطاط الأخلاقي والقيمي والهجرة المتزايدة؟ وأين موقعنا في محاربة الفساد المستشري منذ عقود في الطبقة السياسية عبر ذهنية الزبائنية الرخيصة والإقطاعية المالية والحزبيات الضيّقة؟

 

كيف نواجه تحديات النار المتلهبة والحروب الدائرة في الشرق الأوسط كي نحافظ على الوطن ونحميه من تداعيات صفقة القرن التي باتت فيها الأرض والأوطان مطروحة للبيع أو للمقايضة في أسواق المصالح العالمية؟

 

أما زلنا مؤتمنين على لبنان الكبير الذي أراده البطريرك الياس الحويك، وطناً كبيراً لأبنائه الكبار مسيحيين ومسلمين، ليس فقط في مساحته الجغرافية بل أيضاً وبنوع خاص في القيمة التي يمثلها بالنسبة إلى العالم كله، قيمة الحياة معاً في الحرية والديمقراطية واحترام التعددية؟

 

أتخلّينا عن ارتباطنا الوثيق الروحي والمادي بأرضنا المقدسة؟ ألا عدنا إليها عاملين ومنتجين ومنتصرين على ذهنية الاستهلاك والمتاجرة والربح السريع فنكف عن تقاتلنا وتشرذمنا وانقساماتنا ونستعيد روح التضامن والإلفة كي نتخطّى أزماتنا الاقتصادية والاجتماعية؟

 

هل بتنا عاجزين عن القيام بدورنا الريادي في الشهادة للقيم المسيحية والانسانية ولمقومات روحانيتنا التي ميزّت كنيستنا وشعبنا ووطننا على مرّ الأجيال؟

 

أيها السياسيون أبناء مارون دعوتي إليكم أن تجتمعوا حول شخص البطريرك وأن تجدوا في بكركي مساحة مفتوحة للحوار المسؤول وللتفاهم المطلوب، في هذه المرحلة التي تشهد تحوّلات جذرية على غير صعيد، على إجابة موحّدة عن سؤال مصيري: ما صيغة الدولة العتيدة التي تؤمّن لجميع أبنائها مسيحيين ومسلمين حقوقهم السياسية والوطنية وحقوقهم الثقافية وحرياتهم الدينية؟ فالبطريركية في بكركي صخرة لبنان.

 

أيّها المفكرون والنخب من أبناء مارون أدعوكم حيثما كنتم إلى وضع رؤية مستقبلية للبنان تجيب عن الأسئلة التي يطرحها الشباب والشابات المنتفضون منذ17 تشرين الأول 2019 فهم الأحق بما يطمئنهم إلى مستقبل داخل الوطن لا خارج حدوده.

 

الممارسة السياسية الصحيحة هي المطلوبة لقيادة شعب نحو التطوّر والرقيّ في دولة تحترم القوانين وتحقق العدالة والمساواة لجميع المواطنين، فنحن نريد سياسيين صادقين يشهدون للصدق والشفافية ومحبة الوطن وخدمة إنسانه.

 

يا أبناء مارون، مطلوب منا اليوم أن نكون أنبياء لا جبناء؛ أن نكون أصواتاً تعلو على قمم الجبال وفي قعر الوديان وفي المدن والقرى والساحات وتنادي بالحق والعدالة والسلام وباستجماع القوى والإرادات الخيّرة من أجل إعادة بناء لبنان في دعوته التاريخية وفي رسالته المفتوحة على المستقبل. مطلوب منا أن نكتشف من جديد وطننا الحقيقي الذي هو قبل كل شيء مساحةٌ روحية في العلاقة مع الله ومساحةُ حرية في العلاقة مع الإنسان.

 

مطلوب منا أن نبقى واقفين دفاعاً عن الحرية في هذا الشرق، لأن الحرية كانت وما تزال قضيّتنا، وأن نواجه الموت واقفين حتى لا يبقى الشرق راكعاً على أقدام الأباطرة والخلفاء والسلاطين والملوك والحكام المتعجرفين الذين يا للأسف لا ينتهون. لا تخافوا يا أبناء مارون أن تكونوا مثل آبائكم وأجدادكم أنبياء الحق وترفعوا أصواتكم ضد الباطل؛ فأنتم لا تهابون سوى ربّكم الذي له وحده تسجدون. لا تخافوا يا أبناء مارون إذا خسرتم مارونيتكم السياسية – التي نرفضها أصلاً كما نرفض السنيّة السياسية والشيعية السياسية – لصالح مارونيتكم الأصيلة التي هي كنزكم ورصيدكم لبناء مستقبل أولادكم.

 

إننا نرجو أن يكون عيد مار مارون 2020 مناسبة لتوحيد الموارنة أولاً حول أولوية حمل رسالتهم الإنجيلية والإنسانية بالمصالحة والمحبة والحرية والكرامة، ولتوحيد اللبنانيين ثانياً حول أولوية حمل رسالتهم الفريدة والمميزة بالعيش الواحد واحترام التعددية وبناء بيتنا المشترك، لبنان الرسالة.