IMLebanon

بين مارون والموارنة… بعض “الغربة” وكثير من الحبّ!

 

الراهب الناسك الشامخ كما السنديانة

عُرف عنه شيء وتغيب عنا أشياء. القديس مارون، «بيّ الطائفة»، له في حساب السنة يوم، و»لولاد الطايفة» 365 يوماً. له، في التاسع من شباط، عيد وقداس والتقاء ما تبقى من شملِ موارنة وسياسيين في كنيسة على اسمه، ولنا فسحة وعطلة وربما زيارة الى ضريح مار شربل. فهل القديس شربل أحبّ إلينا من القديس مارون؟ ولماذا هذا البعد، أقلّه الشكلي، بين الموارنة و»بيّ الطائفة؟».

 

الموارنة من أكبر الطوائف المسيحية في لبنان. وللموارنة في لبنان رئيس أوّل و”كلمة” (يفترض أن تكون أولى) وتاريخ وألف حكاية وحكاية. لكن، ماذا عن أب الطائفة المارونيّة؟ لماذا لا نراه في يوميات الموارنة؟

 

الباحث في شؤون الموارنة جو حتي يبحث عن جوابٍ يجده في كلام المؤرخ الدكتور فؤاد إفرام البستاني وفيه: “لم يكن مارون من قادة المغازي ولا من مكتسحي الدول ولا من مؤسسي الممالك والأمبراطوريات. فلا بدع أن لا يهتم به المؤرخون فيدونوا فتوحاته، وأن لا يسير في ركبه الدعاة فينشروا آثاره ومآثره، وأن لا يلتفّ حوله الشعراء فينوهوا بمناقبه”.

 

تُرى، هل هذه هي كلّ الحكاية؟

 

مارون هو راهبٌ سريانيّ إنطاكي، لا يملك المؤرخون معلومات دقيقة عن تاريخ مولده وطفولته ونسبه وأهله لكن جميع المصادر الكنسية والتاريخية، بحسب حتي، أجمعت أنه ولد في أوائل القرن الرابع، بين عامي 315 و325، لكن ما هو ثابت أنه توفي في التاسع من شباط العام 410.

 

الأب الناسك

 

هو عيده يوم وفاته. وهي أسماء وعناوين وصفات كثيرة تكرج، بين العارفين، حين يبدأ الكلام عن مارون بينها: البطريرك تيودوسيوس وقورش وسوريا الأولى والثانية والثالثة والتنسك وإنطاكيا وجبل كفرنابو ومنطقة العاصي والإسكندر المقدوني وسلوقس… لكن، بغضّ النظر عن حفظ كلّ هذه الأسماء والمحطات، تعالوا نتعرف ببساطة شديدة على هذا الراهب الذي أصبح أباً لطائفة حملت اسمه؟

 

راعي أبرشية جبيل المارونية المطران ميشال عون لا يعتبر أن مارون بعيد عن طائفته بقدر ابتعاده الزمني عنهم: “فهو توفيّ العام 410 ولم نحصل على معلومات دقيقة عن حياته. عرفنا أموراً قليلة، بينها أنه بدأ ناسكاً في حياته وأن القديس يوحنا فم الذهب وجه رسالة له وهو في المنفى ضمنها ما معناه: “مارون طمئنني عن صحتك وصلِّ لي”. ويستطرد المطران عون: تنسك مارون على جبل قورش وحياته تضمنّت شفاءات جسدية ونفسية فهو لم يشفِ من الأمراض الجسدية وحدها بل النفسية أيضاً، من داء الخبل مثلاً ومن داء البخل وداء الغضب. كان مرشداً روحياً والتفّ الناس حوله، وأصبح لديه آلاف التلاميذ، من دون أن يؤسس رهبنة. وعظمته ليست بقداسته بقدرِ أن شعباً حمل اسمه وبات شعب الطائفة المارونية نسبة الى اسمه مارون. راعي أبرشية البترون المارونية المطران منير خيرالله غير موافق على أن “مارون” بعيد بعض الشيء عن “أولاده” ويقول: مارون “فلّ” قبل 1600 عام من هذه الدنيا. وكان في إنطاكيا وكلّ المنطقة، كان اسمها سوريا الأولى وسوريا الثانية وسوريا الثالثة. ومارون، قبل أن يرحل عن هذه الدنيا، تنسّك في جبل قورش وعاش حياة نسكية من بُعدين: البعد النسكي العمودي أي العلاقة المباشرة مع الله، والبعد الأفقي النسكي. هو عاش على القمم وأسس لعلاقة مميزة مع الناس الذين طلبوا صلاته وإرشاده. كان مارون يُرشد الناس الى طريق الخلاص. وبعد وفاته إعتنق تلاميذه الحياة الروحية وأتى منهم من عاش على قمم الجبال في لبنان. إبراهيم القورشي، تلميذ مارون، أتى الى أفقا العاقورة في سوريا الأولى التي أصبحت لبنان اليوم.

 

مسؤولية الكنيسة

 

موارنة؟ تعرفون مارون جيداً؟ زرتم دير مارون في كفرحيّ؟ هل تصرخون “يا مارمارون” حين تشعرون بتوترٍ أو بقلقٍ أو “بنقزة”؟ الموارنة يُحبون أب الطائفة القديس مارون لكنهم غير معتادين عليه. هو مثل الأب الحنون الذي مات قبل أن يولد أولاده. يحبونه لكن لا يعرفونه. فهل تتحمل الكنيسة مسؤولية عدم التقريب بين الجانبين؟

 

المطران خيرالله يقول إن الناس لا تريد أن تقرأ. ولو فعلت لشعرت بقربِها أكثر من مارمارون. ويستطرد: هو أقرب قديس إلينا في هذه الأيام لأننا بحاجة ماسة الى روحانيته. نحتاج الى تطبيق منهجيته في العلاقة العمودية مع الله والأفقية مع بعضنا وعبر تعلقنا بالأرض. هو قديس قرّب الناس من الأرض ومن قيَم سماوية وروحانية مطلوبة. نحن بحاجة إليه أكثر من سواه. هو “بيّ” الموارنة. أب كنيستنا المارونية التي سُميّت على اسمه.

 

بعد موت القديس مارون انتشرت رائحة القداسة في الأرجاء. ويُخبّر راعي أبرشية جبيل المارونية المطران ميشال عون أنه بعد إقرار المجمع الخلقيدوني بتأكيد الكنيسة إيمانها بوحدة شخص المسيح وبالطبيعتين في المسيح، الطبيعة الإنسانية الكاملة والطبيعة الإلهية الكاملة “وبأن للمسيح طبيعتين إلهية وإنسانية، بلا اختلاط ولا تغيير، وبلا انقسام ولا انفصال”، إنشقّت الكنيسة وأصبح تلاميذ مارون يُسمون “جماعة بيت مارون”.

 

مارون “الماروني” كان سريانياً. مطران السريان الأرثوذكس في جبل لبنان جورج صليبا، وهو مولود في القامشلي في سوريا، يعايد كل المسيحيين والموارنة على هذه الأرض لكن، بعد السلام والمعايدة، لديه ما يقوله: “مارمارون سرياني، مئة في المئة، أكثر مني”. ويشرح: مارمارون من القورشية من منطقة العاصي، والعاصي هو النهر الذي ينبع من لبنان ويمرّ بقورشية وحمص وحماه وصولاً الى إنطاكيا، من جنوب لبنان الى شماله. ويستطرد: أبحرتُ في مياه هذا النهر ووصلتُ الى السويداء التي استمدّ اسمها من إسم الملك “سولوقس”، وكان لدينا أديرة كثيرة وآلاف الرهبان الذين يعيشون فيها. ولم يكن اسم تلاميذ مارمارون سارياً والتلاميذ كانوا سرياناً.

 

نار ونور

 

ما الذي يؤكد لأهل الكنيسة أن “مارمارون” كان سريانياً؟ يجيب المطران صليبا: المنطقة التي ولد فيها كلها من الطائفة السريانية. لكن، بحسب بعض الروايات، تبع بعض الرهبان تعاليم المجمع الخلقيدوني. وكانت هناك نكايات وانقسامات لا تزال سارية حتى الآن بين رجال الدين. العلاقة بين رجال الكنيسة كما النار والنور. الرومان تحدوا القسطنطينية وعقدوا المجمع الخلقيدوني وحصل في العام 451 الإنشقاق الكبير في المسيحية.

 

مطران السريان الأرثوذكس يقول: لا نعترف، نحن السريان الأرثوذكس، بقداسة تلميذ مارمارون يوحنا مارون ولا بتنصيبه بطريركاً أوّل للموارنة. ويستطرد: تبع هؤلاء روما وكانوا فقراء يعيشون في الجبل. قُدّمت لهم إغراءات مادية فقبلوا أن يُصبحوا من الكاثوليك. وفي العصور الوسطى أنشأوا المدرسة المارونية في روما وخرج منهم من شتمنا. وساندتهم روما والغرب وأصبحوا قوّة ضاربة تتبع روما مباشرة. يُعبّر المطران جورج صليبا عن سخطه من الموارنة لكنه سرعان ما يعود ويستطرد: هم أهلنا وفي صلب تاريخنا.

 

لا يتضرع السريان الأرثوذكس في لبنان الى القديسين بل لله وحده، لكنهم يطلبون شفاعتهم، ويقول صليبا: أنتم لديكم مارمارون ومارشربل ونحن لدينا مارافرام وماريعقوب ونحترمهم كلهم بنفس المستوى لكننا لا نتعبّد سوى لله.

 

مارمارون، يبدو قديساً هادئاً، لا يُحب المشاكل ولا يحمل سيفاً كما مارالياس ولم نسمع عن عجائبه كما مارشربل. فهل كان مسالماً بالفعلِ كثيراً؟ وماذا عن عجائب القديس مارون؟ وهل من عجائب جديدة تحدث؟ يقول المطران ميشال عون إن القديس تيودوروس الذي توفي بعد مارمارون كان يعرف موهبته في الشفاء وحكى كثيراً عنها. لكن لعلّ السبب الأوّل الذي جعل مارمارون أبعد عند الموارنة من مارشربل هو أن الثاني توفي قبل 120 عاماً في حين أن الأوّل كان قبل 1620 عاماً. ويستطرد عون: بعد موت مارون شُيّد دير على اسمه، يقع بالضبط في منطقة معرّة النعمان على نهر العاصي، وسطع شعاع حيث بنيَ في منطقة سوريا الثانية. والمؤمنون أصبحوا خلقيدونيين. وبعد 300 سنة تقريباً من وفاته، انتخب أوّل بطريرك ماروني، في العام 685، وأصبحنا بإرادة العناية الإلهية كنيسة.

 

54 ديراً على اسمه

 

لا تملك الكنيسة في لبنان رقماً محدداً دقيقاً عن عدد الكنائس والأديرة التي تحمل اسم مارون في لبنان والعالم. لكن ما يعرفه الأقربون والأبعدون أن الموارنة هم أولاد الجبال. جو حتي، الباحث في شؤون وشجون الموارنة، يتحدث عن 54 ديراً رسمياً في لبنان والإغتراب، وعن إثنين حكيا عن “شفاءات” القديس مارون وقدراته العجائبية، أولهما القديس يوحنا فم الذهب، بطريرك أنطاكيا في ذلك الوقت، الذي أرسل له رسالة كتب فيها: أبانا مارون أنا في غربتي إشفع لي وصلّ. وحكى المطران تيودوروس عن القديس مارون ووصفه بالإله لشفاءاته الجسدية والنفسية. القديس مارون ركّز على شفاء الجسد وشفاء النفس من العلل، لذلك كثر تحلّق الناس حوله في جبل نابو.

 

نحن، أولاد مارون، خرجنا من “شجرته”. وهناك رسائل كثيرة تحتفظ بها الكنيسة تروي قدرات القديس على شفاء الجسد والنفس والروح. وهو الذي صعد، قبل أن يبدأ بنشاطه الرسولي، الى قمة جبل مارسمعان للتأمل والصلاة والتنسك والصمت. وكان حينها في منتصف العمر. وهو عاش الى ما بعد سن التسعين. القديس مارون تبع خطى أوّل النساك مار بولا الذي كان متقشفاً وأوّل من عمل على قهر الجسد ومنع الشيطان من التسرب بالحواس. وكان يغطي جلده، في بقعة باردة جداً جنب أنطاكيا، بجلد ماعز لا “بالفرو والحرير”.

 

مارانا، كيرا ودومنينا

 

مارون، الراهب الناسك، كان نعمة الله. وهدفه إهداء الوثنيين الى طريق يسوع المسيح. ولم يكن عالماً أنه يؤسس الى ولادة الملّة المارونية. وكم يتردد ونحن نصغي الى “حكاية مارون” إسم الأمبراطور الوثني قسطنطين، إبن هيلانة، الذي ارتدّ الى الديانة المسيحية. نجح مارون في نقل كثير من الوثنيين الى جوهر المسيحية بالفعل لا بالقول. هو ظنّ أنه يعلّم الناس حكمة الله ورسالة المسيح وهذا ما جعل المملكة الرومانية تتحول الى المسيحية. وبعد وفاته، والكلام للباحث حتي، تقاتل أولاد الضّيع وأخذت بلدة براد، في شمال حلب، ناووساً حجرياً فيه جثمان مارون. وكمّل تلاميذ مارون من بعده. مئات التلاميذ، بينهم حوشب وبردات ويعقوب وسمعان وابراهيم، تابعوا ما بدأه وكان بين التلاميذ نساء: مارانا وكيرا ودومنينا.

 

مارانا وكيرا ودومنينا. ثلاثة أسماء جميلة يفترض أن تكون منتشرة في بيوت الموارنة لكن، بعد النظر ملياً في المحيط، بين الموارنة، نراها غائبة!

 

لم يسعَ مارون إذا لبناءِ طائفة بل الى بشارة الوثنيين. وثلاثة كانوا، بحسب حتي، وراء وجود المارونية: مارمارون وابراهيم القورشي ويوحنا مارون الذي وضع الركائز الأساسية وأنشأ الكيان اللبناني. مارون هو السيّد، في معنى الكلمات. وقبل أن يصبح الموارنة طائفة أطلق عليهم إسم “جماعة مارون” وتحولوا الى شعب يبحث عن بناء وطن وجده في لبنان.

 

مارون لم يزر لبنان في حياته لكن هامته موجودة في دير ماريوحنا مارون في كفرحيّ في البترون. الصليبيون أخذوا الهامة الى إيطاليا لكن الموارنة أعادوها الى هنا. ويوحنا مارون هو الذي أتى بها العام 693 الى لبنان. مات مارون هزيل الجسد، بسبب تعمده قهر الجسد، وما لا يعرفه كثيرون أن أب الموارنة قاتل بشراسة من أجل العقيدة المسيحية وكان يجاهر برأيه ويرفض، كما السنديانة، الإنحناء. ومثله عاش تلاميذه الموارنة الذين سميوا “الرفضيين” لأنهم رفضوا الرضوخ والإذعان والإستسلام.

 

ويأتي عيد مارمارون اليوم والموارنة ولبنان في أمسّ الحاجة الى رجال يقفون كما السنديانة لا السنبلة!