IMLebanon

بيوت القديسين»… مغاور الإيمان ومناور السماء

على دروب الإيمان مشينا معهم، وبين حجارة بيوتهم وجدنا قداستهم، في أروقة الأديار عبق رحيق الخشوع ومن ينابيع لبنان تفجّرت أسماؤهم ماءً مقدّسة. من صلب المارونية المسيحية اللبنانية، شعّت مسيرتهم المقدّسة التي حفظناها غيباً مُنيرةً خفايا نفوسنا المُظلمة، ولكن في كتابه «بيوت القديسين والأبرار الموارنة… طريق إلى السماء»، غاص بنا جورج حايك في تفاصيل حياة قديسي لبنان وأبراره، كاشفاً حقائق عائلية ومشوار طفولتهم الذي ارتقى بهم إلى مراتب القداسة العليا.

في كنف عائلات مارونية متشدّدة في إيمانها، تشرّب قدّيسو لبنان وأبراره الحياة المسيحية، فعشنا معهم مرحلة الطفولة، مصلّين صلواتهم، متنسّكين في مغاورهم وقاطنين في أديرتهم، في كتاب «بيوت القديسين والأبرار الموارنة… طريق إلى السماء» لجورج حايك.

لم يُخبرنا الكاتب قصص حياة القديسين بقالبٍ لا يستند إلى وقائع حقيقية، بل أمضى أياماً وشهوراً في القرى التي تحوّلت مهد القداسة المارونية اللبنانية مع القديسين والأبرار، حيث مشى على الدروب نفسها التي مشوا عليها، وزار البيوت القديمة والمتواضعة للأطفال القديسين، مُكتشفاً زوايا الجدران التي حضنت يومياً صلواتهم مع أهلهم.

جال في الطبيعة المحيطة لبيوتهم، حيث لبّوا دعوة الله في القداسة، فاكتشف خلواتهم الطويلة التي كانوا يقضونها في مغاور الجبال اللبنانية التي لم تَسَع إيمانهم فحملتهم نسمات الفصول إلى السماء قرب يسوع ووالدته القديسة مريم.

من بقاعكفرا، حملايا، حردين، غزير، لحفد، إهدن، تنورين وحلتا، حمل حايك رسائل القديس شربل، القديسة رفقا، القديس نعمة الله الحرديني، الطوباوي يعقوب الكبوشي، الطوباوي اسطفان نعمة، المكرّم اسطفان الدويهي، رجل الله أنطونيوس طربيه ورجل الله الياس الحويك، وسلّمنا إياهم في صفحات كتابه التي رشحت قداسةً وأسراراً إلهية.

كتابه ليس أخباراً ووثائق حياة فقط، بل إنه صوَر خدمت النص، ونصّ خَدم الصوَر، لأنّ حايك حمل آلة التصوير والتقط مشاهد لم يرَها إلّا القديسون. فمن بين أغصان الأشجار وقف الطوباوي يعقوب الكبوشي ليتأمل طبيعة قريته، فتأمّلنا بها نحن أيضاً.

جلنا داخل منازلهم القديمة، وتأمّلنا حجارة البيوت التي حمت رؤوس القديسين وعائلاتهم من برد الشتاء وشمس الصيف، وكأننا موجودون في تلك القرى، نتنشّق رائحة الطبيعة ونسقي نفوسنا بعذوبة عطر القداسة والإيمان الطاغية في جبال لبنان.

حياتهم المقدّسة، حفظناها وبعضنا حاول التمثّل بها للوصول إلى مراتب الوعي والإيمان والقداسة التي وصل إليها قديسو لبنان، ولكن لم تُذكر يوماً حياتهم التي سبقت تلبيتهم لدعوتهم في الرهبانيات والأديرة. لذلك، فتح حايك كتاب الطفولة والشباب لهؤلاء القديسين والأبرار، لنقرأ حروف الحياة العائلية التي وضعتهم على سكّة الإيمان والتقوى.

نقرأ الكتاب وننسى واقعنا، لننتقل مسرعين إلى العالم البسيط والمتواضع لهؤلاء القديسين، فتُمزج الحقبات ويتوحّد الزمن بين السطور، لنتأمّل الطبيعة والأشجار التي حملت تردّدات صلواتهم والصخور التي حُفرت عليها تضرّعاتهم في مغاور الحياة ودروبها الترابية، إلى مناور السماء والحياة الأبدية.

كتب حايك هذه القصص سارداً اللحظات بانسياب، فينسى القارئ أنه يحمل كتاباً بين يديه، ويبني حوله الإطار الزمني – المكاني ليعيش الحياة نفسها للقديسين مُتنشقاً الهواء نفسه ومُصلّياً الصلوات نفسها، فيجد نفسه يردّد مع القديس شربل «دخيلِك يا عدرا يا قديسة مريم إمي بالسما… عندي فكرا حلوي بس بالأول بدي شاور خوالي بمحبسة قزحيا». ليفاجئك حايك بعدها بالقرار والخلاصة: «لم يتأخر في الاختيار: أراد هجر العالم والرحيل باتجاه دنيا جديدة، سواد الليل فيها أكثر نوراً من منتصف النهار». (ص 55).

أسلوب الكاتب في سرد الأحداث وتحليل الوقائع يترك الإنسان في تساؤلات عن حياته وواقعه، ويُدهشه بجمال الكلام وصدق الإحساس: «تلك كانت رفقا، حبّة الحنطة في سنبلة مراد صابر، نبتت في بطاح حملايا، فرَوَتها دموع اليتم، وعصفت بها رياح الغربة، وأنضجتها أعاصير الحزن والكآبة، فأينعت، وانفصلت عن أصلها، لتقع في أرض الحياة، وأضحت بدورها سنبلة». (ص 75).

حلّل حايك تأثير القرى المسيحية وتاريخها وطبيعتها على اختيار القديسين طريق القداسة فوصف بشكل دقيق كلّ العناصر التي كوّنت مسيرتهم وفتحت طُرق الإيمان منذ طفولتهم فيقول: «إذا كانت الحجارة تتكلم إلى مَن يصغي إليها، فإنّ حجارة الآثار في بلدة حردين تحكي قصص التاريخ منذ وطأت أقدام الإنسان القديم أرضها، حيث ترك في كلّ بقعة منها أثراً دلّ إلى مروره عليها، أو خبراً استمرّ على لسان مَن سكن فيها قديماً». (ص 92).

ينهي حايك كتابه بخلاصة تترك في النفوس علامات استفهام عن واقعنا الحالي الذي ابتعد كلّ البعد من واقع القديسين التقيّ والتأمليّ: «نحن مسيحيو هذا الشرق نحتاج في تجاربنا الكثيرة، وكثرة الاضطهادات علينا وآلامنا المستمرّة، ومتاعبنا الدائمة، ومكوثنا على جبل الجلجلة، إلى دليل سماوي ساطع على أنّ إيماننا لا يزال حقيقياً، صحيحاً ومستقيماً، ومن مثل القديسين والطوباويين والمكرّمين الموارنة، يستطيع أن يكون لنا الدليل الحقيقي على ذلك… يكاد الشرق عموماً ولبنان خصوصاً يغرقان في الفساد، ونكاد نيأس مما نحن فيه من إحباط، وأبواب مسدودة، وسياسات غبية، واقتصاد مشلول، وفقر شامل، وهجرة بالجملة، وعلاقات سيئة مع معظم دول العالم.

لذا، نحن بحاجة إلى صورة معاكسة، نقية، طاهرة، مستقيمة، أصيلة. نحن بحاجة إلى بيوت الشهادة والنور والصلاة، إلى أماكن مقدّسة، عاش فيها قديسون من بلادنا وتعلّموا فيها كلمات الله والحب والبذل والفداء».