عادت أم حسن لصاجها القديم… نفضت عنه الغبار ووضعته في الخدمة
لم يعد هناك خيار أمام الناس سوى العودة لزمن الاجداد، بعدما اشتدّت الازمة المعيشية والاقتصادية والصحية، اذ بدا لافتاً انشغال المواطنين بجمع الحطب للمواقد وللتدفئة شتاء، حيث يستبق الجميع أزمة المازوت المرجحة للتفاقم أكثر قبل تحريرها نهائياً، حينها ستخرج عن إمكانية الفرد، ما حدا بـ”أبو جميل” كما اقرانه للجوء الى الحقول لجمع ما تيسّر من حطب بالرغم من قلّته، بسبب تهافت الناس عليه، فالاحوال تبدلت، عدا عن استعداد كثر لتحويل جفت الزيتون حطباً، اذ تنشط المهنة هذه الايام، ويلجأ اليها كثر، إما للتموين أو للتجارة، فالازمة أفرزت مهناً كانت خارج التداول.
وعلى قاعدة “مصائب قوم عند قوم فوائد”، يرى ابو إبراهيم أن “حطب الزيتون سيكون له رواج، اقله يصنعه المرء من بقايا عصر الزيتون، بكلفة مقبولة نوعاً ما”، وابدى اسفه لكون “الناس تعيش عصر الكوارث من دون منازع، ما إن يتعايشوا مع ازمة حتى تطل الازمة التالية برأسها، فبعد ازمة البنزين نشهد ازمة انقطاع للغاز، ورواجاً للسوق السوداء بحيث تخطت جرة الغاز الـ125 الف ليرة، وهو ما يقلقنا من الآتي سيما بعد التلويح بأزمة الرغيف من جديد”.
وفق ابو ابراهيم، فإن “العودة للحياة القديمة باتت وشيكة، بل لا مهرب منها، حيث لا كهرباء ولا مياه ولا وسائل تدفئة عصرية”، متحدثاً عن دور كبير لسلطة الفساد برمي الناس في الجحيم، جازماً بأنها ستحاسب في صناديق الاقتراع، معتبراً أن قرى الجنوب غنية بالموارد غير انها تفتقد للانماء، “ففي وقت ندفع فيه ثمن نقلة المياه 200الف ليرة، فإن مياه الانهار تذهب هدراً نحو البحر، اليس هذا من علل وطننا الكبيرة”؟ على ما يبدو أن زمن الاجداد عاد بزخم، وبدأت طلائعه مع عودة الناس لخبز الصاج وللطبخ على مواقد الحطب، مستفيدين من طبيعة القرى، حيث يحيط بكل منزل حقل مزروع بالخضار والبقوليات وموقد للطبخ، وهو ما يراه كثر زمن التقشف، خاصة بعدما اتلف غياب الكهرباء كل مدخرات الثلاجة، وبدأ الاعتماد على نظام “كل يوم بيومه”. في اوجه الصراع مع البقاء، كانت ام حسن تواجه ازمتها بخبز الصاج، تدوّر رغيفها كمن يدوّر مشكلاته ليجد لها حلاً، وتطبعه على وجه الصاج كمن يطبع معاناته لتحترق. عادت ام حسن لصاجها القديم، نفضت عنه الغبار ووضعته في الخدمة، فهي ترى اننا “مقبلون على ازمة خطيرة، فالواقع برأيها سوداوي”، تعود بالذاكرة الى ازمة الرغيف بداية تسعينات القرن الماضي، كانت حينها تجلس في غرفة الصاج وتخبز اتقاء لازمة الخبز التي فجّرت الشارع حينها وقطّعت اوصال البلد بالاطارات، غير انها ترى “ان ما نعيشه اليوم اخطر بكثير، سيما وأن الازمات غير مسبوقة، بل هي مثابة ليْ ذراع الناس، والاخطر انها تعودت ولم ترفع الصوت، عكس انتفاضة الخبز في التسعينات، الناس كلها خرجت الى الشارع، قالت كلمتها فيه ورفضت المس برغيف خبزها، فرضخت السلطة”. كانت الناس حينها برأي ام حسن “إيد وحدة” وقفت معاً في وجه الظلم الذي طالها، اما اليوم فالازمة “حولت الناس تجار سوق سوداء، فالكل يضرب السعر الذي يناسبه، وبالتالي فإنها لم تصب الا الابرياء”.
لساعات تجلس في صف الخبز، تعجن، ترقّ، تلوّح، تدوّر وتطبع على وجه الصاج، تسير وفق ان النظام الخطأ داخله يكلفها خسارة رغيفها “الباهظ”، بإعتقادها ان الخبز المنزلي يقيها ازمات السوق، “كنت قد اشتريت كيس طحين قبل الازمة، تحسباً لما نعيشه اليوم، غير انني لم أبدأ الخبز الا حينما ضرب الغلاء طوقه القاسي على رقابنا”.
وام حسن من الاشخاص الذين يعتمدون نظام المونة، “إقتناء العدس والحمص والفاصولياء والسميد وغيره، وهذا جنّبها غلاء الاسعار داخل المتاجر حيث بلغ كيلو العدس الاحمر21 الف ليرة، والحمص 20 الف ليرة، وهلمّ جرّا على طول السلع، غير انني أمّنت منزلي، واعتمدت في طعامي على المجدرة والبقلة، والسميد والبندورة مع خبز الصاج بجانبها خضار من الحقل”.
رغيف خبزنا عليل، على عكس رغيف خبز ام حسن، تفوح منه رائحة التحدّي، فمن عايش الازمات القديمة يعلم منها قاعدة “اخنقونا منخلق حلول ع قدنا”. ولأن رغيف خبز ام حسن لمواجهة صومعات فنجان الغلاء المدجج بسلاح السوق السوداء، فإنه جاء في زمن ممنوع فيه توبيس اللحى وإن كان رغيفها يبوس لحى الصاج، فشتان بين خبز الكرامة وبوسة العار.
بالمحصلة، لم يذق الناس مرارة مماثلة، لم يصرخوا ولن يفعلوها، بل يجترحون حلولاً “على قدّهم” تقيهم عوز الايام المقبلة، حيث يجزم الجميع بأن الايام المقبلة “جهنم بطبقاتها السبع”.