التحولات السياسية الكبرى في التاريخ، ثورية كانت أم سلمية، أو بفعل الحروب، تبدأ ولا يعرف صانعوها، كما المتضررون منها، متى وكيف ستنتهي. في الحقبة الحديثة، الثورة الفرنسية وقبلها الأميركية، وفي القرن العشرين الثورتان الروسية والصينية، وصولاً إلى الحقبة المعاصرة مع الثورة الإيرانية، وكذلك التحولات الكبرى في العالم العربي بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، إضافة إلى حروب المنطقة والعالم، الحرب العالمية الأولى والثانية وحروب لبنان والعراق والغزو الأميركي للعراق، هي أحداث وتحولات تبدلت غايتها وأهدافها ومعها المسار التاريخي للدول والشعوب.
وفي السياق نفسه يأتي الربيع العربي في نهاية عامه الرابع، الذي انطلق حركة احتجاج شعبي واسع ومعارضة لأنظمة استبدادية ولا أحد يعلم كيف سينتهي. أنتجت الانتفاضات الشعبية العربية في مساراتها المختلفة بين الدول والمجتمعات والعصبيات مفارقات لم تكن بالحسبان: رئيسان دخلا السجن في مصر (من أصل أربعة حكموا خلال ستة عقود)، انهيار كامل للدولة والمجتمع في ليبيا، حرب محتدمة في اليمن وأخرى أشد فتكاً وتدميراً في سوريا. كما أن الدول التي لفحتها رياح التغيير، وكادت أن تهب العاصفة، تحصنت بإجراءات استباقية لاحتواء «الربيع» الآتي بأقل الأضرار الممكنة. حالة واحدة شذت عن المسار العام فكانت تونس نموذجاً في الانتقال السلمي والديموقراطي للسلطة، إذ جاء التغيير منضبطاً في ظل توازنات داخلية فاعلة وبرعاية قيادات سياسية عرفت كيف تستفيد من تجارب الآخرين وإخفاقهم. والسؤال حول الأسباب الحقيقية لاستثنائية الحالة التونسية يبقى بلا جواب مقنع، والبلاد لا تزال في مرحلة انتقالية لا تخلو من المخاطر.
المنتَج المفاجئ في التحولات العربية الأخيرة تمثل بالمكوّن الإسلامي. ففي حين كان متوقعاً أن تبرز جماعة الإخوان المسلمين قوة أساسية في الحياة السياسية بعد كسر احتكار النظام الحاكم للسلطة، وهي الجماعة الأكثر تماسكاً وجهوزية بعد عقود من الاضطهاد والعمل السياسي والاجتماعي في السر والعلن. إلا أن اللافت في سياق هذه التحولات الصعود الصاروخي والمفاجئ للحركات السلفية، وهي لم تكن منخرطة في المجال السياسي، مثلما كان الإخوان المسلمون منذ عشرينيات القرن العشرين. في الانتخابات المصرية، بعد الإطاحة بنظام الرئيس مبارك، حصد السلفيون الذين خاضوا الانتخابات للمرة الأولى أكثر من نصف المقاعد التي حصل عليها الإخوان، وفي الميدان العسكري السلفيون هم الأكثر قدرة وجهوزية للقتال، كما هي الحال في العراق وسوريا. وللتنظيمات السلفية، في تلاوينها المختلفة، حضور مؤثر في ليبيا واليمن وتونس وفي دول أخرى، منها الكويت ودول الخليج، حيث إسلام الدولة حالة مختلفة منذ قيام الحركة الوهابية في أواخر القرن الثامن عشر، وهي أكثر تشدداً في سلفيتها من الحركات الأخرى، وإن اختلف مسارها في إطار الدولة وخارجها عن التنظيمات السلفية المسلحة المعاصرة.
الإشكالية المطروحة هي في شقين: من يضع الحد الفاصل بين الجهاد الدعوي السلمي والجهاد المسلح، ومن له الكلمة الفصل في تظهير الإرادة الإلهية التي يدَّعي احتكارها هذا الفريق أو ذاك؟ وعندما يصبح القتل عملية استعراضية متقنة، نكون أمام حالة مرضية يستحيل تشخيص أسبابها، لا سيما أن الشريك المفترض في تبرير القتل هو من سيحتكم إليه القاتل والمقتول وعنوانه الجنة. وسرعان ما دخلت التنظيمات السلفية المسلحة في حرب أهلية فيما بينها ومع الغير في ساحات قتال مشرَّعة الأبواب للدفاع عن الدين. لكن وراء التستر بالدين مشروع سلطة وتسلط تغلب عليه شهوات الدنيا ولا يختلف سوى بالاسم والشعار عن الأنظمة الشمولية المعروفة في التاريخ القديم والحديث.
السلفية الجهادية اليوم لم تعد مسألة نظرية، والكلام المتداول أن الجهاد الدعوي هو غير الجهاد المسلح صحيح، إلا أن الأصح أن التداخل بين الاثنين كبير ولا يخضع الفصل لأية معايير ولا حتى إلى تجربة سابقة، لأن الاختبار لم ينشأ من قبل، في زمن ما قبل الدولة الوطنية. معظم التنظيمات السلفية جذورها إخوانية، غير عنفية في الأساس، ولقد حصل القطع في مراحل سابقة، وتحديداً في مصر بين الإخوان والتنظيمات الجهادية المسلحة. وتجدر الإشارة إلى أن أبرز دعاة السلفية المعاصرة، سيد قطب، ترأس قسم نشر الدعوة في جماعة الإخوان المسلمين قبل تحوله إلى السلفية.
والمسألة تزداد تعقيداً عندما يتعلق الأمر بإمكانية ممارسة السلطة بالمقارنة مع استهداف التنظيمات الإسلامية ولغيرها في زمن استحالة الوصول إلى الحكم في مرحلة الأنظمة السلطوية. وهذا بدوره يطرح إشكالية التطرف والاعتدال وإمكانية القياس على المستوى الفكري والسياسي وحتى العسكري. فبالمقارنة مع «داعش»، قد تبدو التنظيمات السلفية الجهادية معتدلة. هكذا يبدو مثلاً تنظيم بن لادن والظواهري معتدلاً بالمقارنة مع «داعش» بقيادة الخليفة إبراهيم، وقطع الرؤوس بالخفاء هو أكثر «اعتدالاً» من العرض الدموي المتلفز لرؤوس الكفار المقطوعة وذنبهم أنهم وقعوا في شباك محترفين في ممارسة أبشع غرائز العنف البشري، لا باسم إيديولوجيا دنيوية غالباً ما يخترعها الطغاة، بل باسم الوحي الإلهي المتنازع عليه بين الجهاديين أنفسهم.