تطلّب الأمر أحداثاً متلاحقة ومتدحرجة على مدى 45 يوماً وصولاً إلى اجتماع بعبدا المالي الأخير، حتى يبدأ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بخطوات عملية لإدارة الأزمة. لا بل إن الأفكار التي بدأ يعمل على تطبيقها، لم تكن أصلاً من بنات أفكاره، بل هي أفكار عرضها رئيس الجمهورية ميشال عون في الاجتماع المذكور. سلامة رفض بعض هذه الأفكار، ولا سيما تلك المتعلقة باتخاذ إجراءات لتحويل نسبة 10% أو 15% من ودائع العملات الأجنبية إلى ودائع بالليرة، وهو أبلغ المصارف بهذا الأمر في اللقاء الشهري بين مصرف لبنان وجمعية المصارف ولجنة الرقابة على المصارف، الذي عقد أول من أمس. إلا أنه أبلغها أيضاً بالشروع في عملية خفض بنية الفوائد على الدولار سواء كانت لدى المصارف أو لدى مصرف لبنان، ودرس إصدار تعميم لتنظيم القيود على السحب والتحويل (كابيتال كونترول). المفارقة أن سلامة نفسه شجّع المصارف على أن تفرض من تلقاء نفسها قيوداً على تحويلات الزبائن وسحوباتهم خلال الأشهر الماضية.
يعتقد الخبير الاقتصادي شربل قرداحي أن الخطوات التي أبلغها سلامة للمصارف في اللقاء الشهري الأخير، كانت «مطلوبة» إنما أتت «للأسف متأخرة… وكنّا نتمنى أن يكون هناك توجيهات لتنظيم خروج الودائع منذ بدء الأزمة. فمن غير المسموح أن ترفض المصارف إجراء تحويلات ضمن سقف الـ10 آلاف دولار بينما كان يفترض أن تتوقف التحويلات التي تتخطى 100 ألف دولار».
على أي حال، تطلّب الأمر إغلاق المصارف لنحو 12 يوم عمل في البداية قبل أن تعاود فتح أبوابها لمدّة أسبوع، ثم إغلاق أبوابها لمدّة أسبوع إضافي، بما تخلّل هذه الفترة من تطوّرات سياسية وشعبية من تظاهرات شبه يومية واستقالة رئيس الحكومة وقطع طرقات وجدال حول دور القوى الأمنية، بالإضافة إلى تقييد عمليات السحب والتحويل بشكل قاس ووحشي أدّى إلى تفاقم أزمة سعر صرف الليرة مقابل الدولار في السوق الموازية ليبلغ 2385 ليرة… كل ذلك حصل قبل أن يبدأ سلامة باتخاذ خطوات عملية تصبّ كلّها في إطار إدارة الأزمة ولا تعني أنها حلول على المدى المتوسط أو الطويل.
محضر اللقاء الشهري بين مصرف لبنان وجمعية المصارف ولجنة الرقابة، يشير إلى أن سلامة والمصارف يتخبّطان في بركة موحلة وعميقة. فهو أوضح أنه «بصدد دراسة إصدار تعليمات للمصارف تغطّي الحدود التي وضعتها المصارف على تحويلات الزبائن إلى الخارج وعلى السحوبات بالعملات نقداً انطلاقاً من مسؤولية البنك المركزي بالحفاظ على حسن سير نظام المدفوعات وعلى سلامة النظام المصرفي»، آملاً أن تكون هذه التدابير والإجراءات «كلها ذات طابع مرحلي وانتقالي في انتظار تشكيل الحكومة وعودة الوضع المالي والاقتصادي إلى المسار الطبيعي ليبنى على الشيء مقتضاه».
إذاً، لا يزال سلامة يتعامل مع الأمر وكأنه أزمة سياسية ناتجة عن استقالة الحكومة، وهو يرفض تسمية القيود بـ«كابيتال كونترول»، بل يصفها بأنها تعليمات تنظيمية لتغطية الخطوات التي قامت بها المصارف. بمعنى آخر، يقصد سلامة أنه سيغطّي المصارف أمام الزبائن الذي رفعوا عشرات الدعاوى القضائية، وآخرها الدعوى التي رفعتها شركة نفط على بنك ميد تطالبه فيها بإعادة التسهيلات المصرفية التي وعدها بها المصرف بقيمة 600 مليون دولار نتيجة إيداع مليار دولار لمدّة ثلاث سنوات.
ويشير سلامة إلى أنه رفض في اجتماع بعبدا «أي إجراء يطاول الودائع بما فيه تحويل نسبة مئوية (10% أو 15%) من ودائع العملات الأجنبية إلى ودائع بالليرة». كما يقول إنه سيقوم بالتعاون مع جمعية المصارف بـ«خفض بنية الفوائد الدائنة وتالياً طبيعياً المدينة، وذلك لإطلاق عجلة الاقتصاد من جهة، والحدّ من ارتفاع الديون المشكوك بتحصيلها والتي تتزايد مع ارتفاع كلفة الاقتراض»، موضحاً أنه «في صدد إصدار تعميم بهذا الخصوص في القريب العاجل (خلال ايام معدودة) وأمل أن يستفيد المقترضون من خفض الفوائد لسداد جزء من قروضهم ما يدخل إلى المصارف سيولة بالعملات يملكها المقترضون في الخارج».
165 مليار ليرة الطلب يومي على الليرات الورقية خلال شهرين
لكن، في الواقع، فإن آلية خفض الفوائد ليست واضحة أبداً. فعلى سبيل المثال، إذا خفضت الفوائد على القروض لتشجيع الزبائن على تسديدها قبل وقت استحقاقاتها من ودائعهم في الخارج، فإن المشكلة تكمن في الودائع المجمّدة التي لم تستحق بعد وهي ودائع بمليارات الدولارات. التجميد هو عقد بين المودع والمصرف لا يمكن تحريره أو الغاؤه إلا بموافقة الطرفين، فلماذا سيوافق الزبون على تحرير وديعة عليها فوائد مرتفعة تصل إلى 17% (وخصوصاً تلك الناتجة عن الهندسات المالية الأخيرة)، إذا لم يكن مسموحاً له تحويلها إلى الخارج؟ وبالتالي فإن الفروق في الآجال بين القروض والودائع، في حال لم يتمكن من خفض الفوائد على قسم كبير من الودائع، سيكبّد المصارف خسائر ضخمة قد تتحوّل إلى ذريعة من أجل رفض تطبيق التعميم الذي صدر أخيراً وقضى بزيادة رساميلها من خلال مقدمات نقدية بالدولار بقيمة 1.9 مليار دولار قبل نهاية السنة الجارية، وبقيمة مماثلة قبل نهاية حزيران من السنة المقبلة.
لكن في المجمل، خطوة خفض الفوائد على ودائع المصارف لدى مصرف لبنان ستخفض الأكلاف الهائلة التي يدفعها مصرف لبنان من ميزانيته والتي قدّرها الخبير المالي توفيق كسبار بقيمة 6 مليارات دولار سنوياً، كما أنها ستتيح استعمال قسم من الودائع في عمليات تمويل الاقتصاد.
من جهة أخرى قال سلامة إنه لا يعتزم قطعاً «وضع أي قيود على التعامل بالليرة سحباً أو إيداعاً وان الضجة التي سرت حول هذا الموضوع تعود إلى كثافة السحوبات على مصرف لبنان خلال الشهريين الماضيين بمعدل 165 مليار ليرة يومياً ما دفع مصرف لبنان لطلب طبعة جديدة من العملات الورقية تصل في 20 الشهر الجاري، وما يعني أن المشكلة التي نشأت ظرفية وتعود لاعتبارات لوجستية محضة». مشكلة هذا الأمر التي يعتبرها لوجستية، أن ضخّ الأموال النقدية بالعملة المحلية، تخلق في المقابل طلباً إضافياً على الدولارات النقدية في السوق، وبالتالي قد تخفض سعر صرف الليرة لدى الصرافين.