بالترافق مع نقاشات مشروع الموازنة، هبّت على اللبنانيين رياح الإشاعات التي نشرت البلبلة في الاسواق المالية وكادت ان تهزّ الاستقرار النقدي. وقد أتت فوضى الارقام والتوقعات لتخلط الحابل بالنابل ولتعزّز المخاوف والهواجس، حتى بَدا انّ الانزلاق الى هاوية الانهيار والافلاس لم يعد سوى مسألة وقت.. قصير. ولكن، هل الصورة قاتمة الى هذا الحد؟ ام أنّ هناك تضخيماً لها؟
ربما تكون المرحلة التي يمر فيها لبنان حالياً هي الأصعب والأدق على المستويين المالي والاقتصادي، لكنها ليست بالضرورة توطئة للسيناريو الأسوأ. لا تزال السفينة تحت السيطرة على رغم من اهترائها وتعدد الثقوب في جسمها، وبالتالي فإنّ تفادي وقوع الدولة في محظور «تايتانيك» هو أمر ممكن، إذا توافرت الادارة السليمة للأزمة والحل.
ولعل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي تصبّ عنده الارقام الحقيقية والمؤشرات الصحيحة هو الأكثر قدرة، انطلاقاً من موقعه، على الإحاطة بحقيقة الوضع المالي – الاقتصادي وسبر أغواره، بمعزل عن اتفاق او اختلاف البعض مع السياسات التي يتّبعها لحماية الليرة.
ماذا يقول سلامة في الغرف المغلقة؟
يؤكد حاكم المصرف المركزي، كما ينقل عنه زواره، انه مرتاح جداً الى سلامة الوضع المالي ومناعة الليرة اللبنانية، وواثق في القدرة على التعامل مع التحديات الصعبة التي تفرضها هذه المرحلة، مشدداً على «انّ الواقع النقدي مَمسوك ولا خوف من حصول انهيار مالي».
ويعتبر سلامة «انّ هناك تخويفاً غير مبرر للناس»، لافتاً الى «انّ لبنان «بَعدو فايش» وليس مهدداً بالغرق على حد ما يروّج البعض»، ومؤكداً انّ شيئاً لا يمكنه ان يؤثر على استقرار الليرة، استناداً الى الحقائق المالية التي يملكها.
ويوضح سلامة انه «مطمئن الى القدرة على تأمين الاستقرار المالي لسنة واثنتين وأكثر، والاستمرار في تمويل ما يجب تمويله من مصاريف أساسية للدولة، لكن في المقابل المطلوب من الدولة «إنّو تحِط كتف معي»، وأن تبادر الى وضع الحلول والسياسات التي تسمح بتحقيق النمو الاقتصادي»، مشيراً الى «انّ المشكلة الاساسية تكمن في الافتقار الى رؤية اقتصادية شاملة ومتكاملة، الامر الذي يزيد من حجم الاعباء الملقاة على عاتق المصرف المركزي».
ويشدّد سلامة على «انّ العلاج الجذري للأزمة الاقتصادية يجب ان يرتكز على قاعدتين أساسيتين هما زيادة النمو الاقتصادي واعتماد خطة جدية لاحتواء الدين العام»، منبّهاً الى «انّ الاستمرار في الاستدانة لا يصنع النمو، وداعياً الى إيجاد بيئة ملائمة لاستقطاب الاستثمارات لأنّ الاستثمار هو الذي يخفف البطالة ويطلق دينامية في الاقتصاد».
ويتوقف سلامة عند ملف الإسكان، موضحاً «انهم يطلبون من مصرف لبنان أن يموّله ويديره»، متسائلاً باستهجان: «ما شأننا في الإدارة على هذا الصعيد؟».
ويستغرب كيف انّ الدولة عازمة على ان تطلب من المصرف المركزي مدّها بمبلغ 12 ألف مليار دولار بفائدة 1 في المئة لمدة 10 سنوات، لكي تغطي جزءاً من العجز، «كأنها تريد ديناً ببلاش تقريباً»، متسائلاً: «هل يُعقل ذلك؟ أين يمكن أن تضعنا وكالات التصنيف؟».
ويعتبر سلامة، وفق ما يعكسه زوّاره، «انّ الضغوط الاقتصادية والمالية التي تواجه لبنان ليست متأتية فقط من العوامل الداخلية المتفاقمة وإنما ايضاً من عوامل خارجية قسرية تفوق طاقتنا وإرادتنا». موضحاً «انّ لبنان تأثر بالانكماش الاقتصادي على مستوى العالم، وليس أدلّ الى ذلك من الواقع المُستجد في الخليج».
ويضيف: «من المفارقات، انه قبل عام تقريباً، اضطرّت بعض المؤسسات الموجودة في السعودية والمملوكة من لبنانيين، الى ان تعتمد في تأمين جزء من نفقاتها على فروعها في لبنان، بعدما كانت هي التي تحوّل الاموال من المملكة الى هنا. الآن، تحسّن الوضع مقارنة بما كان عليه، لكن ما حصل هو مؤشّر».
كذلك، يلفت «الحاكم» الى «الأثر السلبي المُترتّب على التراجع في تحويلات اللبنانيين من الخارج الى الداخل، خصوصاً بعد التعقيدات التي ترتّبت على العقوبات الاميركية». (تجدر الاشارة الى انّ نسبة التحويلات انخفضت عام 2018 نحو 20 في المئة قياساً على تلك التي سُجلت عام 2017).
وتعليقاً على الحملات التي يتعرض لها أحياناً، يؤكد سلامة أمام زواره «انّ آليّات عملنا اصبحت واضحة لدى المسؤولين الكبار الذين اصبحوا يسلّمون معنا بالمنهجية التي نعتمدها، وبالتالي فإنّ هجوم البعض عليّ هو شخصي ويعكس حسابات فردية أكثر ممّا يترجم اتجاهات حزبية او سياسية».
ويشير الزوار الى انهم استنتجوا من حصيلة المداولات مع سلامة «انّ التعرّض لحاكمية مصرف لبنان في مثل هذه الظروف ينطوي على حساسية وخطورة، لأنّ الاستحقاقات الداهمة لا تمنحنا هذا الترف».