تُظهِر مؤشّرات التضخم في البلد حجم التراجع الدراماتيكي في القدرة الشرائية للمواطن، واتّساع دائرة المحتاجين، وهناك من يطرح رفع الرواتب لمساعدة الناس على الصمود. لكنّ محاذير خطوة من هذا النوع تبدو مُدمّرة، ولو انّ استمرار التضخّم وثبات الرواتب يشكّلان فاجعة لا تقل خطورة.
أظهرت ارقام إدارة الإحصاء المركزي ارتفاع معدل التضخّم في لبنان عام 2020 إلى 84.9 في المئة العام الماضي مقارنة مع 2.9 في المئة عام 2019، الا انّ هذه الفوارق القياسية لا تعكس التضخم الحقيقي لأنّ بعض السلع لا تزال مدعومة من مصرف لبنان وفق سعر صرف 1500 ليرة، مثل المحروقات والقمح والأدوية والمستلزمات الطبية. وبالتالي، كيف سيكون المشهد بعد انتهاء الدعم ورفعه كليّاً عن كل السلع، وقد حدّد حاكم مصرف لبنان مهلة 6 اشهر قبل انتهاء أموال الدعم. فما هي توقعات المسار التضخمي حتى نهاية العام؟
يؤكد الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين انّ نسبة التضخم أكبر بكثير من الذي طرحته إدارة الإحصاء المركزي. صحيح انّ أسعار الكهرباء والاتصالات لا تزال مستقرة، لكنّ الإيجارات والمواد الاستهلاكية ارتفعت بشكل ملحوظ، وفي حال رفع الدعم فإنّ الأسعار ستسجل مزيداً من الارتفاع.
وشدّد شمس الدين لـ»الجمهورية» على ضرورة وقف الدعم اليوم شرط ان تُفرِج المصارف عن أموال المودعين وتعطيهم إيّاها بعملة الحساب وليس فقط بالليرة اللبنانية، فهذه الودائع هي ملك الناس، وبالتالي لا يحق لحاكم مصرف لبنان ولا للمصارف أو الحكومة ان يتصرّفوا بهذه الودائع، المطلوب إعادة الأموال للناس على ان يدعم كل فرد نفسه بما يَرتئيه مناسباً. واكد انه بمجرد إعادة الأموال الى الناس وضَخ الدولارات في السوق، ستتراجع أسعار السلع. لكن في حال رفع الدعم من دون ضَخ سيولة بالدولار في السوق، فإنّ سعر صفيحة البنزين، والتي يبلغ ثمنها اليوم 30 ألفاً، سيرتفع الى 100 ألف في حال سجّل سعر الدولار 10 آلاف ليرة. وأكد انه في حال لم يكن هناك حلول جدية للأزمة، فنحن متّجهون نحو سيناريو أسوأ، مشدّداً على انّ الحل يجب ان يكون بالسياسة وليس بالاقتصاد.
رفع الأجور
في الموازاة، وبعدما أدّى تراجع قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار الى فقدان اللبنانيين ما لا يقل عن 80 % من قيمة رواتبهم، ما ساهَم في ارتفاع نسبة الفقر لتتجاوز الـ55 في المئة، أقدَمَ الاتحاد العمالي العام الى المطالبة بتصحيح الرواتب ورفع الحد الأدنى للأجور. فهل يجوز طرح هذا الموضوع اليوم، خصوصاً انّ من مخاطر تطبيقه ازدياد نسَب التضخم الى مستويات قياسية؟
يؤكد رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الاسمر لـ»الجمهورية» ضرورة رفع الحد الادنى للأجور، خصوصاً بعدما خسرت 85 % من قيمتها. ومن واجبنا، رغم كل التحديات التي تمر بها البلاد، ان نطالب باستمرار بحقوق العمال، مؤكداً انّ بعض الشركات الغذائية والصناعية بادرت الى زيادة رواتب موظفيها لأنها كانت تحقق أرباحاً في الفترة الماضية، لكننا في الوقت نفسه ندرك تماماً انه لا يمكن تعميم هذه التجربة في ظل الاوضاع الاقتصادية والصحية الحالية، حيث انّ بعض الشركات أفلست او تسجّل تراجعاً في أدائها ولا تعمل بكامل طاقتها، لا سيما المؤسسات السياحية مثل الفنادق ودور اللهو والباتيسري والمطاعم وقطاعات التجميل التي ضُرِبت اقتصادياً، وأُجبِرَت مجدداً على إقفال أبوابها، ما ضاعَفَ من مصيبتها.
كذلك يعاني القطاع المصرفي انهيار المنظومة المصرفية، وقد زاد التعميم الاخير للمصرف المركزي رقم 154 من أعبائها، لكنّ المصارف استفادت وحققت أرباحاً في السابق، لذا قد يكون من الوارد ان تطبّق زيادة في الاجور في بعض المجالات. ونحن كاتحاد عمّالي عام نتفهّم عدم قدرة بعض القطاعات على زيادة الاجور، الا انّ الرواتب الحالية ما عادت تكفي لتغطية تكاليف بعض الاساسيات والبديهيات، مثل فواتير مولدات الكهرباء والهاتف والانترنت.
واعتبر بشارة انّ رفع الحد الادنى للأجور يحتاج الى دعوة لجنة المؤشّر من قبل وزارة العمل، التي تضمّ اصحاب العمل والاتحاد العمالي العام، الّا انّ هذه الخطوة غير ممكنة حالياً. لذا، سنلجأ الى حوارات ثنائية ما بين العمال واصحاب العمل في القطاعات التي يمكن ان تطبّق فيها الزيادة على الاجور، كما ندعو الى معالجة ظاهرة الصرف من العمل، وخَفض الاجور الى النصف.
أمّا عن تقديراته لقيمة الحد الأدنى للاجور في المرحلة المقبلة، فقال: لا يمكن تحديده قبل حصول استقرار في سعر صرف الليرة، فنحن لدينا 4 اسعار لصرف الليرة الى جانب نيّة الحاكم في تَعويم سعر الدولار، وهذا ما لا يمكن البناء عليه. فنحن نحتاج الى حد أدنى من الاستقرار السياسي يُمهّد الى حدّ أدنى من الاستقرار المالي قبل أن نطرح أرقاماً تكون أقرب ما يكون الى الواقعية.
شمس الدين
في المقابل، يرى شمس الدين انّ رفع الأجور في ظل هذه الظروف هو انتحار لأنه سيؤدّي الى مزيد من الارتفاع في سعر الدولار وانهيار لليرة أكثر فأكثر، وبالتالي ستتراجع القدرة الشرائية عند المواطنين. واعتبر انّ زيادة الأجور ليست حلاً، إنما هي تضخّم إضافي سيزيد الانهيار ويرفع نسبة الفقر، ومعه ستُقفل المؤسسات الخاصة لأنه ليس في مقدورها تحمّل زيادة للرواتب، وإنّ أي زيادة في القطاع العام من دون الخاص ستخلق هوة اجتماعية كبيرة، وبالتالي انّ أي تفكير في زيادة الأجور هو خطأ.
وأضاف: إنّ تصحيح الأجور يستند عادة الى مؤشّر التضخم، وهذه الخطوة تكون قابلة للبحث اذا كانت الزيادة 2 أو 3 %، وليس 85 % حال مؤشر التضخّم في العام 2020. وتابع: اذا كانت الدولة تدفع اليوم 12 ألف مليار ليرة كرواتب وأجور للعاملين والمتقاعدين في القطاع العام، فمع زيادة الأجور سترتفع الكلفة الى 22 ألف مليار، أي انها ستؤدي الى مزيد من التضخم. فمن أين ستأتي الدولة بالاموال؟
ورأى انّ الحل يكمن في الاتجاه نحو حلول تخفّف من الدخل، مثل أن تُطلق وزارة الاشغال عَمل سكك الحديد وخطة لتعميم النقل المشترك، وهذه الخطوة قابلة للتنفيذ في غضون 3 أشهر، وهي تحتاج فقط الى قرار وزير، وبموجبها نتخلّص من عبء سعر المحروقات وكلفتها. ومن الحلول المطروحة كذلك، رفع تعرفة الكهرباء لتغطية جزء من العجز ورفع الإنتاج، لافتاً الى انّ كل مواطن يدفع اليوم فاتورتَي كهرباء، والكلّ مستعد لدفع فاتورة واحدة شرط تأمين الكهرباء 24/24. كلّ هذا يعني انّ الحلول متوفّرة، ومن الممكن ان تعطي نتائج في غضون شهرين أو ثلاثة.