اليمن من الوحدة إلى الانقلاب (4)
صالح.. هاوي الرقص على رؤوس الثعابين
تصرّف الرئيس علي عبدالله صالح بـ«النصر» على الجنوب على أساس كونه فرصة لاستكمال عملية السطو على الدولة ومقدّراتها.. وتحويلها في الواقع إلى سلطة فئوية.. ومن أجل ذلك قام بتعديل نصف مواد الدستور، فألغى مجلس الرئاسة الخماسي، وبات يعيّن الوزراء، ويترأس مجلس القضاء الأعلى بالتناقض مع مبدأ فصل السلطات المثبّت في الدستور. وعلى الصعيد السياسي قلب ظهر المِجن لحليف الأمس (التجمّع اليمني للإصلاح) الذي انتقل إلى خانة الخصوم.. كما كان قد حصل مع الحزب «الاشتراكي» سابقاً؛ والتفت صوب الشمال (صعدة) ليشجّع ويدعم مَن سوف يسمّون بـ«الحوثيين» أو «أنصار الله» على أمل استغلالهم في صراعه مع خصمه الجديد، ثم ليعود ويدخل معهم في حروب ستة سوف تمتدّ إلى عام 2010، وخلال هذه المرحلة سيزداد الوضع الاقتصادي سوءاً ويتلبّد الجو السياسي في عموم البلاد وعلى وجه الخصوص جنوباً وشمالاً.
.. كما الفترة الانتقالية التي تلت إعلان الوحدة، لم تكن مرحلة تثبيت الوحدة وتوطيد أركانها، من خلال استدراك أخطاء ما قبلها، واستدراك الأخطاء التي وقعت خلالها، كذلك فإن الفترة الانتقالية لم تكن مرحلة التدقيق، في ضوء التجربة بثغرات دستور الوحدة والعمل على معالجتها بهدف توسيع الديموقراطية وترسيخها، أي تحويلها من هياكل تبدو للمراقب غير المدقّق أو لذوي المصلحة والغرض مكتملة النصاب، بينما هي بقيت في جوهرها هياكل تمركز السلطة في أيدي فئة سياسية – اجتماعية ضيّقة تسلس قيادها لفرد تخدمه ويخدمها. فبعد أن اعتبر الرئيس علي عبدالله صالح أنّه صفَّى حسابه مع خصمه «الاشتراكي»، سوف يستدير لمعالجة مشكلاته المتوقعة مع «التجمّع اليمني للإصلاح» الذي شجّع على تأسيسه بعد الوحدة ورفده بالكوادر ليحاول توظيفه في صراعه وخصومته مع «الاشتراكي»، كما سوف يعمل أكثر باتجاه خصم جديد سبق وأن شجّعه لغرض موازنة حزب «التجمّع»، ويدخل معه في صدامات وحروب دموية، أي الحوثيين، وهذا ما سوف يكون موضوع معالجة في إطار هذا الملف.
إعادة «هندسة» الدستور
فعلى صعيد إعادة ترتيب السلطة أجرى صالح تعديلات دستورية مسَّت ما يقارب نصف مواد دستور الوحدة، وأضاف إليه تسعة وعشرين مادة على ما تورد الباحثة ساره فيليبس في مصدر سبقت الإشارة إليه. وشملت التعديلات، على سبيل المثال وليس الحصر، إلغاء مجلس الرئاسة الخماسي، وبات مجلس الشورى يعيّن من قبل الرئيس نفسه. وألغت التعديلات الجديدة، معظم القوانين التشريعية لجمهورية اليمن الديموقراطية السابقة. وأعطى الدستور الجديد الرئيس حق تعيين مجلس الوزراء، وترؤس مجلس القضاء الأعلى، متجاوزاً بذلك مبدأ الفصل بين السلطات، وقد ترأس فعلياً مجلس القضاء هذا حتى 2006. وقد جرى استبدال نظام القضاء الجنوبي؛ كما تمّ الإيغال في ترويض المنظمات الجماهيرية، وغير الحكومية. وكان من أبرز نتائج الحرب تعزيز نظام المحسوبيات؛ حيث يتمثّل أحد العناصر الأساسية في نظام المحسوبيات في تشجيع المواطنين على الاعتماد المالي على الدولة، سواء كان ذلك من خلال التوظيف في الدوائر الحكومية، أو عبر الاعتماد على العلاقات الشخصية مع النظام الحاكم من أجل النجاح في قطاع الأعمال التجارية… (حيث) استناداً الى إحصائيات البنك الدولي، يُعتبر المناخ الاقتصادي في اليمن أحد أضعف المناخات التنافسية في العالم العربي، كما يُعتبر اليمن ثاني أغلى الدول في العالم من حيث المبلغ الأدنى المطلوب للرأسمال لإنشاء مشروع تجاري… (وحيث يُفترض بالشركات التجارية التفاوض في شأن معدلات الضريبة مع الموظفين الحكوميين، نظراً إلى عدم وجود معدل قياسي للضريبة يطبّق بالتساوي…).
لكن، بالتلازم مع إعادة هندسة الدستور، ومع استفحال وتغوُّل نظام المحسوبية، ما هي الوجهة الرئيسة التي اتخذتها الأحداث في اليمن، وخصوصاً على الصعيد السياسي، والذي طالما اعتدَّ صالح أنه حقله المميّز؟
تكتّل «أحزاب اللقاء المشترك»
في مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي، شهد اليمن أحداثاً بالغة الأهمية على الصعيد الداخلي، وهي أحداث ترتبط بدون أدنى شك بالخارج بصورة أو بأخرى، ولكننا اخترنا عمداً، التركيز على النوابض الداخلية لها لسبب منهجي سليم يغلِّب العنصر الداخلي على ما عداه، وفي نهج يرغب بقوة الابتعاد عن «نظريات المؤامرة» التي تستشري في بلداننا عند تناول معظم القضايا، صغيرة كانت أم كبيرة؛ فالتدخلات الخارجية حقيقة واقعة عندنا وعند سوانا، والبحث فيها مطلوب وضروري، ولكن في سياقه وفي حجمه الحقيقي.. وذلك كي لا تضيع الأمور بين المهم والأهم ويختلط الحابل بالنابل، فهناك أحداث ثلاثة مهمة طبعت مرحلة هذا العقد: تشكيل إطار «لقاء الأحزاب المشترك» الذي ضمَّ أحزاباً وقوى يمنية مختلفة، كإطار مُعارض للسلطة المركزية، تفجّر الصراعات بين النظام و«الحوثيين» سياسياً بدءاً من عام 2002 ومزيد من تبلور وتفاقم «العصبية الجنوبية»…
لقد تشكّل تكتّل «أحزاب اللقاء المشترك»، إطاراً للمعارضة السياسية في 6 شباط/فبراير 2003، وهو ضمَّ الأحزاب التالية: 1 – «التجمّع اليمني للإصلاح». 2 – الحزب «الاشتراكي» اليمني. 3 – حزب «الحق» (الذي سوف يُسمّى قسم منه بـ«الشباب المؤمن» بدءاً من عام 1996 وسوف يعرف لاحقاً بـ«الحركة الحوثية» أو حركة «أنصار الله». 4 – التنظيم «السبتمبري الديموقراطي» وهو حركة تستوحي تراث ثورة أيلول/سبتمبر عام 1962. 5 – اتحاد القوى الشعبية اليمنية وهو إئتلاف يجمع تيارات ناصرية. وقد قام هذا التكتل بهدف التنسيق بين مكوّناته استعداداً للانتخابات القادمة (عام 2003)، وشملت بنود الاتفاق التفاهم بشأن كيفية إدارة المعركة الانتخابية القادمة، والحض على التنافس بأخلاقية وديموقراطية، وإعطاء الأولوية للتنسيق بين أطراف «اللقاء المشترك»، والتأكيد على مراعاة الحزب «الاشتراكي» لأنه لم يكن ممثلاً في البرلمان بسبب مقاطعته الانتخابات عام 1997. وقد تصرفت أحزاب هذا الائتلاف ككتلة واحدة في نقاش قانون الانتخاب المطروح من قبل الحكومة، وتمكّنت من انتزاع بعض التنازلات.. ووضع الائتلاف لنفسه هدفاً يتمثّل بالوقوف في «وجه نفوذ حزب «المؤتمر الشعبي» العام الحاكم.. الذي يحشد الجيش والأمن والإعلام والمال العام والوظيفة العامة في الاستحقاقات الانتخابية ويلوّح بالمفارم والمغانم…». وجرت انتخابات عام 2003، التي لم ينل فيها الحزب «الاشتراكي» سوى 8 مقاعد، بينما حصل حزب «التجمّع اليمني للإصلاح» على 46 مقعداً.. وجرت نقاشات كثيرة بشأن إخلال «التجمّع» بتعهداته تجاه «الاشتراكي».. لكن الأهم في الواقع، هو المنحى الانتخابي الانحداري الذي شهده حزب «التجمّع» على مدار ثلاث دورات انتخابية، فهو كان قد حصل على 62 مقعداً في انتخابات 1993، وعلى 53 مقعداً عام 1997، وهبطت حصته في التمثيل الى 46 مقعداً عام 2003، واتضح بذلك أن الرئيس اليمني قد نقل التجمّع اليمني للإصلاح، من دائرة التحالف التكتيكي الى دائرة الخصومة الحادة، إن لم يكن العداوة. وخلال السنوات الممتدة منذ ما بعد هذه الانتخابات الى انفجار أحداث «الربيع اليمني» عام 2011، جرت في اليمن حوارات ووساطات تكاد لا تُحصى، تتمحور حول الإصلاحات الدستورية التي كانت تُطالبه بها المعارضة ممثّلة بأحزاب «اللقاء المشترك» ولكن من دون طائل ما حدا بهذه الأحزاب الى التهديد بمقاطعة انتخابات 2007 النيابية.. وتكرّرت المسألة عند استحقاق انتخابات عام 2009 حيث تمَّ تأجيل الانتخابات والتمديد للمجلس لمدة سنتين حتى عام 2011، وجاءت الانتفاضة الشعبية لتفرض التأجيل مرة أخرى.. كما أن جلسات الحوار، وبالإضافة الى القضايا الدستورية وهيئة الإشراف على الانتخابات، كانت تتناول دورياً مسألة معالجة آثار حرب 1994 التي كانت تمسّ أساساً الحزب «الاشتراكي» سياسياً كعنوان للمسألة الجنوبية، وكذلك ما بات يُعرف في الأدبيات اليمنية بـ«قضية صعده» التي كانت قد انفجرت عسكرياً عام 2004، ضد «الحوثيين» الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «أنصار الله».. لذا من الضروري إلقاء الضوء على هذا التيار الذي لعب وما زال يلعب أدواراً خطيرة في الشأن اليمني، وذلك بالإيجاز الضروري الذي يفرضه هذا الملف، ولكن بالوضوح الضروري كذلك، بما يُعين القارئ على فهم أفضل لمجريات العقد الماضي، وكذلك ما يجري حالياً، وما يمكن أن تتطوّر عليه الأحداث في اليمن لاحقاً.
الحوثيون بين الإيديولوجيا والسياسة
تنتمي الجماعة الحوثية أو جماعة «أنصار الله»، الى المذهب الزيدي بمعناه العريض، وهو مذهب واسع الانتشار في اليمن، تقدّر بعض الأوساط انتشاره في إطار الإقليم اليمني الموحّد بنسبة 35 إلى 40 في المئة تقريباً. هذه النسبة تقلّ أو تزيد وفقاً للأهواء المذهبية أو الطائفية أو السياسية.. ولفهم هذا التردد في تحديد النسبة الدقيقة، ما علينا إلا أن نتذكّر التقدير العددي لكل طائفة لنفسها في بلادنا! يتعايش المذهب الزيدي في اليمن، ومنذ قرون طويلة مع المذهب السني الشافعي الأغلبي؛ وهنا أيضاً نسبة الأغلبية تخضع بدورها للأهواء.. تتميّز الحاضنة السكانية للمذهب الزيدي بتركيبها القِبَلي الغالب، وهو يتموضع في الأساس وسط تحالفَين قبليَّين كبيرَين: تحالف قبائل «بكيل» وتحالف قبائل «حاشد»، وهي تعيش على العموم في مناطق جبلية مميزة بوعورتها وفقر مواردها وعزلتها، الى أمد قريب، عمّا يصطلح على تسميته بتيارات الحداثة.. وهذا لا ينفي بطبيعة الحال وجود نخب وتيارات حداثية داخل المذهب، ولكننا نتكلم عن سمة غالبة مع التضحية بشيء من الدقة العلمية أو الإحصائية. أما التيار الأغلبي الشافعي (نسبة الى الإمام الشافعي) فيحتضنه تاريخياً، التحالف القبَلي الأكبر في اليمن ممثّلاً بتحالف قبائل «مذحج»، وهو واسع الانتشار في المناطق الوسطى من اليمن، ذات الكثافة السكانية الأعلى نسبياً؛ ويتميّز هذا التجمّع القِبَلي عن التجمّعين السابقَين، بكونه، نسبياً (مرة أخرى) أقل قبليةً، إذ هو يتموضع عموماً في مناطق أفضل من حيث الموارد الزراعية، والصناعة التحويلية الخفيفة، والتجارة، ليس فقط المحلية، بل التجارة مع الخارج؛ ولهذه الأسباب مجتمعة، ولأسباب أخرى عديدة أيضاً، تمَّ اختراقه بصورة أسرع من قبل تيّارات من الحداثة متعدّدة. ففي هذه المناطق ولو جلَّ التيارات الفكرية والسياسية اليمنية من التيار الليبرالي بتنويعاته، الى التيار القومي المتعدد الانتماء والمرجعية، الى التيار القومي المتحوّل يساراً، الى اليسار.. وفي هذه المناطق ولدت النقابات وأنوية المجتمع المدني. أما جنوب اليمن فلا يشمله الانتماء الاسمي للتحالف القبَلي الأخير (مذحج) لكنه خضع لشروط تغيير اجتماعي شبيهة تقريباً؛ فمن حضن مصفاة النفط في عدن (الصغرى) ومينائَي عدن والمكلاَّ (حضرموت)، وخدمات القاعدة الجوية البريطانية في عدن، ومن الزراعة المتطورة نسبياً بتشجيع بريطاني لتلبية احتياجات المتروبول، كزراعة القطن على سبيل المثال إلخ، ولدت الحركة النقابية وكذلك الأحزاب السياسية بتياراتها المختلفة… هذه التطورات اخترقت القبَلية في الجنوب من دون أن تقضي عليها تماماً، وخصوصاً من دون أن تقضي على المناطقية.
أما المذهب الزيدي عقدياً، فيمكن القول بقليل من التجاوز، إنّه مذهب وسطيّ، وبشكل أدقّ، مذهب وسطي بين الإسلام السني والإسلام الشيعي. واضع أسس المذهب هو الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، اشتهر بالعلم الديني والزهد والعبادة. يُقال إنه اتصل بفرقة المعتزلة وتأثّر بهم، من دون أن يكون ذلك موضوع إجماع عند المتابعين. تميّز عن عمّه جعفر الصادق، الإمام السادس عند الإمامية الإثني عشرية، بخروجه على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في ثورة انتهت بمقتله عام 740م. وأسّس بذلك لفكرة أنّ مشروعيّة الإمام ترتبط بالخروج على الحاكم الظالم. أقرَّ مبدأ الإمامة لكنه لم يعترف بفكرة «الغيبة» والإمام الغائب. تتلمذ على يديه أبو حنيفة النعمان صاحب المذهب الحنفي، الذي تتلمذ أيضاً على الإمام جعفر الصادق. دعم أبو حنيفة خروج زيد على الحاكم الأموي، كما دعم خروج محمد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب الملقّب بالنفْس الزكيّة. وقد رفض الإمام الصادق «دعم عمّه زيد أو محمد النفس الزكية أو غيرهما من شيعة آل البيت الذين تكاثرت ثوراتهم بعد مقتل الإمام الحسين.. في موقعة كربلاء».
وبعد زيد نشأت فِرَق أو تيارات «زيدية» عديدة لعلَّ أكثرها مدعاة للاهتمام ثلاثة: 1 – الفرقة الجارودية، نسبة الى زياد بن المنذر الهمذاني (أبي الجارود)، وقد جمع الجارودي بين فكرة الخروج على الحاكم الظالم عندما التحق بزيد في ثورته المذكورة، وفكرة الإمامية الإثني عشرية والاعتقاد بالمهدي المنتظر، ولعلّه يجوز تسمية الجارودية بعقيدة البَيْنَ – بَيْن من حيث تموضعها بين الإمامية الإثني عشرية والزيدية. 2 – الفرقة الصالحية أو البترية ولعلها أقرب الفرق للسنّة من حيث أنّها تقبل خلافة الصحابة قبل الإمام علي، لأن عليًاً قبل بهم بموجب مبدأ «إمامة المفضول بوجود الأفضل». تتمسك هذه الفرقة بالإمامة في ذريّة عليّ وفاطمة من أولاد الحسين، وهي تتميّز بقبول وجود إمامَين في الوقت نفسه في قطرَين متباعدَين. 3 – الفرقة السليمانية أو الجريرية وهي تعود بنسبَها الى سليمان بن جرير الرقّي، كان من أنصار جعفر الصادق وانفصل عنه والتحق بالفرقة الصالحية، ثم اختلف معها، وخالف الفِرَق الزيدية كافة، التي جعلت الإمامة في أبناء فاطمة من ذريّة الحسنين وجعلها شورى تصلح لمن يصلح لها ويقدر على أعبائها والقيام بواجباتها…
إنّ ما تمَّ استعراضه، موجز مبسّط ولكن غير مُشوِّه لفكر الزيدية – الأم، يعبّر عن وسطيّتها وتعدّديتها الفكرية، ونعتقد أنها ستستمر عموماً عبر الزيدية في اليمن. وقد كان هذا التقديم ضرورياً لتناول الحركة الحوثية بما هي حركة سياسية لها بداية وسيرورة مرتبطة بالوضع اليمني والوضع الإقليمي، خصوصاً انها احتلت لسنوات، وما زالت، حيزاً معتَبراً من خلال صدامها مع نظام علي عبدالله صالح وبالتحالف الراهن معه.
في سياق الوضع اليمني الداخلي يمكن القول إنّ «الحوثية» أو حزب «أنصار الله»، هما الوريث السياسي لـ«حزب الحق» ومنتدى ثمّ تنظيم «الشباب المؤمن»؛ وعلى الصعيد الفكري، حصيلة التفاعلات في صفوف هذين التنظيمين الأوّلين، يُضاف إليها المحمول الاجتهادي الذي أضافه الحوثي الأب بدر الدين الحوثي كتفسيرات زيدية منسوبة الى الفرقة «الجارودية» التي مرَّ ذكرها؛ بالإضافة الى اجتهادات ابن حسين بدر الدين الحوثي التي تنحو المنحى نفسه، والتي تدّعي أنها انتفاضة داخل المدرسة الزيدية نفسها، وأنها زيدية «حركية»، لا تخفي استلهامها الثورة الإيرانية الخمينية، من حيث كونها، خروج على الحاكم الظالم في إيران، وبهذا، كما يحاجج حسين الحوثي ويرى، أنّ الإمام الخميني، إنما استهلم المبدأ الأساس الذي تأسست عليه الفرقة الزيدية.
وما يهمّنا، وما نعتقد أنه يهمّ القارئ بالأساس، هو الجانب السياسي فيها، وموقع الحركة الحوثية في المشهد السياسي اليوم. أما الجانب المعتقدي والدخول في تفاصيل ما يجمع الحوثية مع الإمامة الإثني عشرية، وما يميّزها عنها، فقد نتطرق إليه، كلما تبين أن الأمر يطرح نفسه لضرورات الوضوح في المواقف السياسية.
تأسّس «حزب الحق» اليمني عام 1990، في سياق التعددية التي نشأت بعد الوحدة، أسوةً بأحزاب أخرى تأسست أو هي كانت موجودة واكتسبت شرعيتها في سياق إقرار التعددية، وكان من أبرز مؤسّيسه المرجع الزيدي محيي الدين المؤيدي، وبدر الدين الحوثي وولده حسين الحوثي والشيخ محمد عزَّان.. وحسن زيد الذي سوف يكون أمينه العام، وسوف يترشّح حسين الحوثي على قائمة الحزب للانتخابات النيابية عام 1933، ويصبح نائباً عن منطقة صعده. وسوف يُعلن الحزب الجديد صراحةً أنه «يتبنى الفكر الزيدي الفقهي والسياسي والدفاع عن هذا الفكر باعتباره فكراً إسلامياً لا يمكن التخلي عنه.. (ثم إنه) جزء من تاريخ اليمن وعقيدته لا يمكن سلخه عنها…». لكن سرعان ما دبّ الشقاق داخل الحزب فور صدور أول بيان شرعي عنه. ولعلَّ السبب يكمن (على ما يقول الدكتور سعود المولى) في أن البيان الشرعي أعلن التخلي عن الإمامة كإطار فكري وسياسي لنشاط الحزب، واعتبرها صيغة بشرية لها مبرراتها في الماضي ولم يبقَ لها مكان في حاضر اليمن، وإن معيار اختيار الحاكم اليوم هو التقوى، وإن الأمة هي خلفية عقائدية.. وإذا كان سوف يستمر.. بل سوف يوقع مع الأحزاب الأخرى بتبنّي المبادرة الخليجية عام 2011، فسوف يخرج من صلبه عام 1996 منتدى «الشباب المؤمن» ممثّلاً لجناح أكثر راديكالية من الزيدية السياسية. وسوف يحظى هذا المنتدى المتحوّل الى «تنظيم الشباب المؤمن»، بدعم من قِبَل علي عبدالله صالح يصل الى حد الدعم المالي والمادي كما أقرَّ بذلك الشيخ محمد العزَّان أمينه العام، وكما سوف يقرُّ بذلك الأب الروحي للحركة الحوثية، بدر الدين الحوثي، محاولاً التخفيف من أثر الواقعة، ومبرّراً لها بحجّة أنه كان مجرد دعم بالمواد الغذائية للمؤسسات التربوية الحوثية. المهم أن هذا الدعم السياسي والمادي غير المعلنَين، كان تعبيراً عن لعبة صالح المفضّلة؛ فبعد دعم «التجمّع اليمني للإصلاح» والسلفيين في مواجهة «الاشتراكي»، وبعد تحوّل حزب «الإصلاح» بامتداداته العقلية والسلفية منافساً خطراً له، وجد في دعم تيار زيدي منظم ومستند بدوره لتحالفات قبلية، أنه يوفّر له فرصة للتصدي لحزب «الإصلاح». لكن هاوي الرقص على «رؤوس الثعابين»، لم تحالفه دقة الحسابات السياسية والتكتيكية هذه المرة؛ فتنظيم «الشباب المؤمن» الذي كان قد بلغ شأواً معتبراً من الانتشار على شكل شبكات تربوية وتعبوية انطلقت من صعده لتغطّي تقريباً معظم جغرافية الانتشار الديموغرافي الزيدي، بدأ يعاني من الصراعات الداخلية الحادة، تحت وقع الاجتهادات الزيدية المتناقضة؛ ومغادرة «تيار الحوثي» من صفوفه ليشكل حزب «أنصار الله». ولم تجرِ هذه العملية فجأة، بل شكلت سيرورة من التجذّر السياسي بدأت متأثرة أكثر فأكثر بالسيرورة الإيرانية وتقمّصت بعض شعاراتها السياسية والعقائدية وأبرزها الشعار الشهير: «الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود…». إن هذا التجذّر السياسي أحرج كثيراً الرئيس اليمني وبخاصة الشعار المذكور، وجرت مداولات كثيرة بشأنه بين رجالات صالح والحوثيين من دون الوصول الى مخرج يقبل به النظام. وتلبّدت الأجواء بينه وبين «أنصار الله».. وقد أكد أكثر من مصدر يمني على أن «منع السلطات أتباع الحوثي من ترداد شعارهم بالمساجد كان أحد أسباب اندلاع المواجهات بين الجماعة والحكومة اليمنية». وفي كتابه «حرائق اليمن – شهادات من الداخل» يقول الصحافي الزميل خيرالله خيرالله إنه «حتى العام 2003 اعتقد علي عبدالله صالح أنّ الحوثيين في جيبه وأنّهم ورقة من أوراقه. لكن حادثة وقعت في تلك السنة جعلته يعيد النظر في حساباته. اكتشف الرئيس اليمني الذي كان يمرّ في محافظة صعده لتأدية فريضة الحج، أن الحوثيين صاروا شيئاً آخر وأنهم انقلبوا عليه. توقّف صالح في صعده. كان في طريقه الى مكة برّاً لتأكيد تطور العلاقات مع السعودية… فوجئ بعد انتهائه من إلقاء خطبة الجمعة في المسجد الأهم في صعده بوقوف شخص من الحوثيين وإطلاقه ما بات يسمّى بـ«الصرخة». و«الصرخة» هي «الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام». ويضيف خيرالله أنّ صالح «فهم أن إيران استوعبت الحوثيين، وأنه لم يعد يتحكّم بهم كما كان يعتقد». المهم أن حملة اعتقالات واسعة سوف تلي هذه الحادثة، قدرت بعض المصادر بأنها شملت 800 معتقل؛ وأن حروباً ستة سوف تنشب بين النظام و«أنصار الله» بين عامي 2004 و2010، وخلال هذه الحروب سوف يوجه صالح الاتهامات المتكرّرة لإيران بدعم الحوثيين والتدخّل بالشأن اليمني، وسوف تتوالى الاحتجاجات السياسية والديبلوماسية والاستنجاد بالمجتمع الدولي.