يُمسك الرئيس الدكتور سليم الحص من فراشه بزمام شرف فنون المواقف والكلام، الذي نرغب أن يمتلكه الجميع في الوقت الذي قد يحسدون فيه أولئك القادرين على قوله وممارسته؛ أولئك الذين تربّوا وتمرّسوا بالديمقراطية والتواضع وبالكلام الوحيد الديمقراطي في القول والممارسة الذي يرفع منزلتهم الوطنية أبداً بعيداً عن حكام الفساد والثراء واستهداف الناس كلّ الناس يتمرّغون بالبؤس والفقر والجوع أمام مبالاة الحكّام.
بعيداً من التيارين الأساسيين بل التيّارات التي تتصدّر واجهات الصراع السياسي اليوم وأمسِ والمدمّرة لتاريخ لبنان المعاصر، ألحّ رئيس الحكومة السابق الدكتور سليم الحص (وقد لامس الـ91 أطال الله بعمره) مطالباً بصوتٍ خافت وكلماتٍ نظيفة قليلة منتقاة وتوصياتٍ سكنت حبري كما الوشوشة المقدّسة، بل داعياً من فراشه إلى يقظة عارمة هي أكثر من ضرورية اليوم مذكّراً بروح «منبر الوحدة الوطنية» وفلسفته التي لطالما أرساها وأرسينا من حوله برامجها الأساسيّة وأنشطتها معه بمبادراتٍ وأفكارٍ توفيقية وأنشطة تحت مسمّى «القوة الثالثة» سبيلاً وحيداً لتقريب المسافات والهوّات المميتة بين الأفرقاء هم هم بحثاً عن خلاص لبنان في الأمس واليوم وكلّ يوم.
«لا مكان إلاّ للحوار والتواضع والحكمة بالنظر إلى المناصب والسلطات. فناء لبنان الحزين مقيم معي على أبواب هذه الفانية»، قالها الحصّ موشوشاً. «جدّدوا القناعات والمواقف والمبادئ وادعموا المبادرات الوفاقية وتابعوها لإخراج لبنان من الأزمات المتلاحقة». كلامّ سماوي، وخصوصاً عندما تُصمّ الآذان وتُنصب التحديّات إلى القبب وتُحجم الأيادي عن توقيع الاتفاقات التي تكفل نِعَمِ السلام والوئام والتفاهم. وعليه…:
خلال الـ2007، نشط أعضاء «منبر الوحدة»، برئاسة الرئيس الحص، بين الرئاسات الثلاث ورموز القوى السياسية، عارضين مبادرات تُبعد اللبنانيين عن الحرب الأهلية التي راحت تلوح في التصريحات والمواقف معلنةً اشتداد الأزمة. كان هذا في ظلّ استكمال قوى المعارضة تحرّكاتها لإسقاط رئيس الحكومة عبر العصيان المدني الذي عارضه المنبر باعتبار أنّ الأوضاع لا تُحلّ بالعنف الذي يُورث تبعات خطيرة تنسف ما وصل خشب لبنان المندثر. كانت أميركا تدعم بالمُطلق ما سُمّيت يومها «الحكومة العرجاء» إلى درجة لن يستطع أي تحرك إسقاطها.
ومع استمرار تعطيل المؤسسات الدستورية وغياب الحوار بين القوى اللبنانية بعد اشتداد الأزمة السياسية مع أحداث 23 و25 كانون الثاني 2007، أطلق «المنبر» ميثاق شرف بتاريخ 31 كانون الثاني 2007، دعا إلى التزام الميثاق الوطني وعدم اللجوء إلى أي نوع من أنواع الأسلحة في حلّ المعضلات الشديدة التعقيد. يومها حملنا نصّ الميثاق الذي اتّفقنا حول صيغته، وأوفدنا الحص إلى المرجعيات وكان من نصيبي المشاركة في وفدٍ إلى الرابية لزيارة العماد ميشال عون والحصول على توقيعه وكذلك وفد لزيارة السيد حسن نصرالله للحصول أيضاً على توقيعه. جاءت الوثائق موقّعة من كلٍّ من رؤساء الوزراء السابقين: رشيد الصلح، عمر كرامي، سليم الحص، والجنرال ميشال عون (الذي لا زلت أحتفظ شخصيّاً بوثيقة موقّعة منه) فيما امتنع نجيب ميقاتي عن التوقيع. وفي إطار عرض هذه الوثيقة على القوى السياسية، واجهنا مقاطعة القوات اللبنانية والحزب التقدّمي الاشتراكي وتيار المستقبل فكان أن أُفشلت دعوة المنبر، وصارت في الأرشيف.
عدنا في «منبر الوحدة الوطنية»، إلى واجهة العمل السياسي في الأيام الأخيرة من تشرين الأول 2007، بعدما اقتصر عملنا على إصدار البيانات واتّخاذ المواقف وعقد المؤتمرات الصحافية؛ ليطرح الرئيس الحص ومجموعة الشخصيات الملتفة حوله مبادرة تهدف إلى تأمين عبور آمن نحو الاستحقاق، حتى في ظلّ الفراغ الرئاسي، فاقترحنا اتفاقاً بين الرئيسين لحود والسنيورة بتأليف حكومة وحدة وطنية بعيدة عن التجاذبات السياسية للإمساك بإدارة البلد في حال حصول الفراغ أواستفحاله. ولمس التجمّع إيجابية لدى الرئيسين إميل لحود ونبيه برّي، لكنّ موقف رئيس الحكومة أجهض المبادرة.
ad
طُبع تاريخ «منبر الوحدة الوطنية» بدخول الساحات السياسية الرسمية المتصارعة من باب الوساطة والتوفيق بين الأطراف، مع غياب الثقة بين الأطراف والتدخُلات الخارجية وغياب القوى الوسطيّة المشغولة بالمصالح والمكتسبات إلى تعدّد الآراء الطائفية والكيديات التي تُشيع التناقض، علماً بأن الرئيس الحص يبقى الرمز الجامع المشترك بين مختلف الآراء؛ وهو خائف في فراشه، وكأنّ ما يحصل اليوم يطوي حنيناً مرعباً نحو ذكريات دامية عبرت.
الكلام والموقف الحر هما من أحجار الزاويا في فهم معنى الديمقراطية وكشف التربية السياسيّة لكلٍّ منا، والذين يتفننون فيه هم أصحاب سلطة واقتدار ليس في مدنهم وحسب وإنّما لدى المواطنين كلّهم ومثالهم الرئيس الحص. هم أصحاب شرف وحظوة وسلطان أينما كانوا فوق عروش السلطة أو فوق بساط الشيخوخة.