يعيش لبنان أسوأ مرحلة في تاريخه تفوّقت بسوداويتها على زمن الحرب الأهلية والإحتلال السوري من دون أن يكون هناك ربان يستطيع تخليص سفينة الوطن من الغرق.
لا شكّ أن النظام اللبناني يختلف كثيراً عن أنظمة المنطقة ذات الرئيس الواحد الأوحد والآمر الناهي، لكن باستطاعة رئيس جمهورية لبنان أن يفعل شيئاً ما أقلّه أن يصارح الشعب بما يحصل لا أن يكتفي بالتبشير “أننا ذاهبون إلى جهنم”.
قبل توقيع “اتفاق الطائف” كان رؤساء الجمهوريات ذوي إنجازات لا يزال التاريخ يذكرها حتّى وقتنا هذا، لكن ليس رئيس الجمهورية هو الساحر الذي يفعل كل شيء بل كان الرؤساء يحيطون أنفسهم في كل العهود بفريق عمل وبكوكبة من المستشارين والوزراء أمثال شارل مالك، غسّان تويني، ادمون رزق، ادمون نعيم، الياس سركيس (قبل أن يصبح رئيساً)، جان عبيد، فؤاد بطرس ولائحة تطول وتطول.
هذا الأمر لم يقرأه جيداً العماد ميشال عون لحظة إنتخابه رئيساً في 31 تشرين الأول 2016، حينها عاش الشعب حلم التغيير بعد الوعود التي كيلت ليتفاجأ بواقع أمرّ من المرّ ويستفيق على أزمة لا يعرف أحد متى تنتهي.
منذ أن وطأت قدما عون بعبدا والبلاد تعيش على واقع صراع الأجنحة في القصر الجمهوري، والجميع يتذكّر كيف أن رئيس “التيار الوطني الحرّ” النائب جبران باسيل إستطاع أن يُبعد إبنة الرئيس ميراي من دائرة القرار في القصر بعدما كانت أقرب مستشاريه.
ولم تتوقّف الأحداث هنا، بل إن عهد عون إنطبع بمستشار كان بمرتبة وزير هو سليم جريصاتي الذي دار دورته وحطّ في القصر الرئاسي ليضع بصمته على أسوأ مرحلة يعيشها اللبنانيون.
منذ تعيينه وزيراً على اسم تكتل “التغيير والإصلاح” إكتشف الجميع أن جريصاتي هو وديعة سوريّة بالشراكة مع “حزب الله” في الحكومة تحت عباءة جنرال الرابية، وهذا الأمر يبقى مقبولاً إلى حين تحوّل جريصاتي المستشار الأول في القصر الجمهوري والمشارك في غالبيّة اجتماعات الرئيس وصانع الكثير من القرارات، خصوصاً تلك التي ورّطت عون بمواقف لم يعد من السهل الخروج منها.
ويتناقل اشخاص من الحلقة المقرّبة من بعبدا أن مرجعية جريصاتي ليست فخامة الرئيس أو ميرنا الشالوحي، بل إنها موجودة في حارة حريك ودمشق، وبالتالي فان وجوده في القصر الجمهوري ليبقى العين الساهرة لهذا المحور ولعدم اتخاذ قرارات تضرّ بالمصالح العليا له، وفي السياق فان باسيل لا يرتاح كثيراً لعمل جريصاتي وإرتباطاته والعلاقة ليست في أحسن أحوالها خصوصاً أنّ جريصاتي يحاول تسيير عون في بعض الملفات عكس إرادة باسيل.
وبما أن تيار “الحرية والسيادة والإستقلال” قد انقلب على مبادئه، هناك كثر ممن لا يزالون في صفوف التيار البرتقالي يحملون بشدّة على الدور الذي يضطلع به جريصاتي الذي كان في موقع الخصومة مع “التيّار الوطني الحر” ولم يكن مناضلاً في صفوفه بل كان على الضفة الأخرى.
ويؤكّد متابعون لما يحصل في دائرة القرار أن جريصاتي “يحشر” نفسه في كل شاردة وواردة، ويعمل على أن يكون الرجل الأول في القصر الجمهوري وينافس باسيل، وقد أُوفد منذ أيام إلى بكركي للقاء البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وعاد إلى القصر وأخبر عون أنه استطاع تغيير مواقف سيّد الصرح وسيتوقّف الهجوم، إلا ان بعبدا تفاجأت في اليوم الثاني بعظة قاسية للراعي توجّه فيها مباشرةً إلى عون والرئيس سعد الحريري، علماً أن الراعي لا يرتاح كثيراً لجريصاتي.
علامات إستفهام كثيرة توضع حول اسم جريصاتي خصوصاً بعد بروز اسمه في ملفاتٍ عدّة من مرسوم التجنيس الفاضح في بداية العهد، الى مراسيم العفو التي حصل عليها بعض موكّلي مستشار الرئيس، الى دوره في تعطيل التشكيلات القضائيّة، الى الضغط على قضاة، الى أدوار تواصُل مع “حزب الله” وسوريا، ودوره السلبي في تأليف الحكومة ومحاولته زيادة الهوّة بين عون والحريري.
لكن ما يجعل الأمور أكثر صعوبة هو أن عون يثق بمستشاره الذي أقنعه ذات يوم بضرورة توزيره في حقيبة العدل، ما يتيح له الإمساك بمفاصل الجسم القضائي. ثمّ أقنعه مرّةً ثانية بضرورة توزيره في مواجهة توزير “القوات اللبنانيّة” لكميل أبو سليمان، تأميناً للتوازن بين “رأسَين” في القانون.
وعلى رغم إنتفاضة الشعب اللبناني على الطبقة السياسية ورفضها حكومة سياسيين والمناداة بحكومة إختصاصيين مستقلة، يسعى جريصاتي للعودة الى الحكومة المقبلة من نافذة تمثيل رئيس الجمهوريّة برجلٍ يُعتمد عليه في مجلس الوزراء، وهو يسعى الى إقناع عون بتوزيره من حصّته، ما يُشكّل طعنة جديدة لمطالب الشعب وللمبادرة الفرنسية التي هي الفرصة الإنقاذية الأخيرة.
يطمح جريصاتي للعودة إلى وزارة العدل في وقت يروي قضاةٌ أخباراً كثيرة عن تدخلاته في عمل بعضهم، إما مباشرةً أو عبر مساعده داني الرشيد الذي يضع صورة ماهر الأسد على رقمه الخاص على “واتساب”، وهو يعمل لصالح رجال أعمال سوريّين حمايةً لمصالحهم وممتلكاتهم في لبنان، علماً أنّ جريصاتي يواصل “تحرّشه” ببعض القضاة، تماماً كما سعى بعد انفجار المرفأ، الى حماية مدير عام الجمارك بدري ضاهر، من دون أن ينجح في ذلك بفعل مواجهته من قبل مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات.
ولم تقف تدخلات جريصاتي عند الحدود السياسية والقضائية والأمنية، بل إنه يحاول أن يكون اللاعب الاول في طائفة الروم الملكيين الكاثوليك، علماً أن الصرخة عارمة عليه داخل الطائفة، فهو يصوّر نفسه الرجل الأقوى في العهد، لكنه لا يستطيع حفظ مدير عام واحد للكاثوليك، وقد تعرّض لموجة غضب كاثوليكية حتى ذهب بعضهم إلى القول إنه يُفضّل مصالح “حزب الله” والنظام السوري على أبناء طائفته، ولماذا كل ذاك النفوذ الذي يدعي انه يملكه إذا لم يُستخدم لمصلحة أهل بيته؟
وفي السياق، فان جريصاتي يستخدم موقعه وحتى علاقته الجيّدة بالمسؤولين السوريّين التي تؤمّن له “مَونة” على بطريرك الروم الكاثوليك يوسف الاول العبسي ومطران زحلة والفرزل عصام درويش في محاولة لتولّي منصب نائب رئيس المجلس الأعلى للروم الكاثوليك وتحذير من يواجهه في الاستحقاق الانتخابي المنتظر، وقد أدّى سعيه هذا الى بداية شرخ داخل الطائفة بين بعض سياسيّيها وبطريركها.
إذاً، يضفي سلوك جريصاتي طاقة سلبية على عمل رئيس الجمهورية وقد يكون من أبرز المساهمين في إفشال عهده، كما أنّ سلوكه هذا إنتقل إلى قلب الطائفة ما يدلّ على انه صاحب أيادٍ “تفشيلية” أينما حلّ بحسب وصف من يعرف حراكه.