IMLebanon

سلمى مرشاق: مسيحيّو حارة حريك جبناء.. وعلاقتنا ساءت مع موسى الصدر

 

التهديد لاحق دائماً أهل بيتها ولقمان شهيداً

 

 

أنهكتها السنون لكنها أبت أن تلين. كاتبة، باحثة، جريئة، حديدية و… ثكلى. أتت من القاهرة وسكنت حارة حريك في بيروت. تزوجت من نائب، أصبحت أماً، وأكثر لحظات عمرها قسوة كانت لحظة نادت ولدها- صديقها- ولم يجبها. كان ميتاً. أصبح شهيداً. هو لقمان محسن سليم. سلمى مرشاق سليم، المسيحيّة – الشيعيّة، التي عاشت أمداً في قلب الضاحية الجنوبية حملت- على مضض- ثقل العمر والتجارب الحلوة والمرّة ونزحت. تركت مضطرّة مكتبتها وأريكتها ورسائلها لكن: ماذا عن الذكريات؟ ماذا عن تجربتها الغنيّة بالأحداث؟ ماذا عن حارة حريك والسيّد موسى الصدر ومحسن سليم ووديع فلسطين وأيام قد لا تعود؟ بلهجةٍ مصرية جميلة أبت أن تتخلى عنها روَت أم لقمان ورشا وهادي لحظات من مفاصل العمر:

 

 

 

منذ نزح آل سليم من البيت الكبير في حارة حريك، وبركة البيت، سلمى، تقف على شرفة بيت في سوق الغرب وتنظر نحو حارة حريك مرددة: هناك بيتي. تأخذ نفساً عميقاً وتعود لتدخل هرباً من لفحات برد تشرين.

 

 

 

ولدت سلمى في القاهرة، من والد سوري مصري بروتستانتي ووالدة لبنانية كاثوليكية أصلها من جون. تقترب. تلقي علينا التحية فنرى في قسماتِها لقمان. نقول لها تحبباً: لقمان كان يُشبهك. تجيب بابتسامة راقية: «لقمان يُشبه نفسه. تشاركنا في حبّ الكتاب والقراءة. كان روحي، قلبي، صديقي. وتستطرد: لقمان، في الشكل، «زيّ أخويا». كان لديّ أخ طبيب أطفال اسمه أنيس مرشاق هاجر للأسف إلى كندا. المتعلمون لا يطيقون البقاء في هذا الشرق وهذا محزن. الطاقات دائماً تهاجر».

 

 

 

خسرت سلمى في الآونة الأخيرة وزناً. لا تأكل كثيراً. تُفكّر أكثر. وتعتبر أن وجودها بعيدا من «البيت الكبير» في الحارة- حارة حريك- مجرد Holiday (إجازة) وستعود قريباً مرددة: «تعالوا إلى بيتي في بيروت… هنا أنا ضيفة».

 

 

 

هناك، كانت تنزوي حين تريد أن تكتب لكن كل ما تريده الآن أن تعود إلى الحارة حيث كل الذكريات والمكتبة. وتقول: «جدي هاجر إلى مصر. ولدت هناك. وديع فلسطين القبطي كان أستاذي. حين توفي يعقوب صروف، استلم هو المقطم. وتستطرد: تعرفين المقطم؟ كان لدينا في القاهرة جريدة الأهرام الصباحية، وبعد الظهر كانت تصدر صحيفة المقطّم. كبُر أستاذي وديع فلسطين، وكان ابنه الموسيقي قد غادر إلى كندا وابنته «مش عارفه إيه» فقال لي: مكتبتي… أخشى على مكتبتي. أجبته: أعطني مكتبتك وما تحكم به آخذ به. وهذا ما حدث. مكتبة وديع فلسطين موجودة الآن في بيتنا في حارة حريك». تنظر في عينيّ وتردد: زورينا في حارة حريك. هناك توجد المكتبة التي كونتها والتي أخذتها من وديع فلسطين».

 

 

 

والدها سوري الأصل، هاجر أجداده إلى مصر، ووالدتها ابنة جون. هل تعرفين جون؟ تسألني. و… وتتذكر دير المخلص: «أهل والدتي تبرعوا بأملاكٍ إلى دير المخلص حتى أنني كتبت إلى خالي الدكتور أقول له: أرجوك لا تتبرع بمكتبتك أريدها. كان خالي من أوائل الأطباء الذين تخرجوا من الجامعة الأميركية عام 1904». تعلمتُ في مدرسة الأميركيين للبنات في مصر. ودخلت هناك إلى الجامعة الأميركية كلية الصحافة. وكنا ننتقل للاصطياف سنوياً في بلودان في سوريا، كانت العائلة تلتقي جميعها صيفاً. عائلتنا كلها هاجرت. مصر كانت البلد المحبّ ذات القلب الكبير بينما العيش في لبنان كان محدوداً. اللبنانيون، مع احترامي لهم، محدودون. الشوام جميعاً، من النخبة، هاجروا إلى مصر. نحن من أسسنا الأهرام ودار الهلال ومجلة الهلال لا تزال تصدر. الشوام الذين ذهبوا إلى هناك أسسوا للنهضة. ومصر استقبلتهم. كانت بلداً مضيافاً. مصر غير.. إنها جميلة جميلة. لبنان بلد جميل، فيه جبل وبحر «وما عرفش إيه» لكن النشاط الثقافي في حينها كان في مصر. تنظر إلى عينيّ من جديد وتسألني: «عمرك رحت مصر؟ أجيبها: نعم. تسألني: زرت إيه هناك؟ رحت الأهرام والمقطم؟».

 

 

 

عائلة سلمى مرشاق اهتمّت بالكتابة والطباعة. والدها عمل في التجارة. ووالدتها- من آل مصوبح- علّمت في مدارس الإنكليز. وماذا عنها؟ تجيب: «كان أحد أساتذتي يراسل مجلة «نيوزويك» فاقترح عليّ أن أفعل أيضاً. من رفاقي كانت ليلى رستم. هل تعرفينها؟ كان لديها برنامج على الشاشة الصغيرة في القاهرة ثم انتقلت إلى لبنان وتزوجت من آل الطقشي. هي عملت رحلة معاكسة لرحلتي، هي مصرية «قحّ» تزوجت لبنانياً وعملت «السجل المفتوح» على الشاشة اللبنانية. وبقيت تسأل عني إلى أن مرضت ورحلت. كانت لذيذة». تتمهل. تصمت. ثم تقول: «تعالي إلى بيروت لأريك إرثي مكتبتي ومكتبة وديع فلسطين. نوال المحلاوي، مساعدة محمد حسنين هيكل، كانت صديقتي أيضاً».

 

 

 

تعرفت على محسن سليم الذي أصبح نائباً يوم نزلت مع أهلها إلى لبنان: «والدي مرض بضغط الدم. منعوه من الإصطياف في بلودان العالية عن البحر فنزلنا إلى بيت مري. هناك تعرفت على الأستاذ محسن الذي أصبح يزورنا كلما أتى إلى مصر». هل نفهم من ذلك أن الإعجاب بدأ بينهما من تلك اللحظة؟ تحمر وجنتي إبنة الخامسة والتسعين وتحجب عينيها.

 

 

 

هل هي من ساهمت في دفعه إلى عالم السياسة فالنيابة؟ تجيب: «كان محسن زعيماً في منطقته. هو من عائلة شيعية مهمة في حارة حريك. وأصبح نائباً عن المقعد الشيعي في الدائرة الثانية هناك. لبنان كانت له دائماً  عقلية شيعية وسنية ومسيحية. تعرفت عليه وانسجمنا وتزوجنا وأنجبنا رشا ولقمان وهادي. هادي أستاذ قانون مهم لكنه للأسف أصبح في فرنسا. هنا لا يهمهم الأشخاص الأذكياء المميزين. ولقمان- للأسف- راح. قتلوه. ورشا تمثّل حالياً الجميع».

 

 

ماذا بدّل فيها غياب لقمان لا بل قتله؟ بصوت متهدج تجيب: «أثّر بي موته كثيراً. رشا كانت تدرس في فرنسا. وهادي كان مشغولاً في جامعته. أما لقمان فكان معي دائماً، أصبحنا أصدقاء. خسارته صعبة جداً جداً. أيّ أم تخسر ابنها ينتهي جزء من نفسها. كان ابني لقمان يحب القراءة والكتب. وكان يحبّ اللغة العربية والأدب العربي. كان مميزاً. كان صديقي ومات».

 

 

تتذكر سلمى مرشاق سليم أيام الإنتخابات التي خاضها محسن: «كان الناخبون يفرحون بلهجتي المصرية. محسن عمل نائباً دورة واحدة فقط. نزل في البداية مع ريمون إده في جبيل وخسرا معاً. السياسة كانت (وتستمر) خنوعاً لزعيم ومحسن- مثله مثل لقمان- رفض الانصياع إلى أي زعيم. كان إنساناً حراً، هو محام شجاع دافع عن ليلى البعلبكي وكامل مروة وليلى سعد. هددوه بالقتل مراراً قبل أن يفعلوا مع لقمان. هو لبناني وبسّ. لقمان مثله لبناني وبسّ. حياة عائلتي كانت دائماً في خطر. في إحدى المرات أيام دفاع محسن عن كامل مروة وضعوا قنبلة أمام بوابة منزلنا في حارة حريك. هُدد محسن لأنه كان وطنياً. هذا البلد ممنوعة فيه الوطنية».

 

 

 

تنظر سلمى من شباكها، حيث نزحت أخيراً، نحو الضاحية الجنوبية وتقول: «كانت حارة حريك ضيعة جميلة. نصفها من المسيحيين ونصفها من الشيعة. وحين أتى السيد موسى الصدر تغيّرت النظريات كلها.. لتفهمي ما اقصد يجب أن تعرفي الحارة قبل السيد موسى وبعده. بعد مجيئه شعر الشيعة بدعمٍ نفسي وبدأوا يشعرون بأهميتهم. محسن كان صديقاً له. كان يزورنا دائماً بعد مجيئه من إيران. الحلم الإيراني بدأ يتركّز منذ ذاك الحين عبر الفلسطينيين. كانت علاقة السيد موسى ممتازة مع أبو عمار. محسن مشى مع الصدر في البداية لكنه، في لحظة، عادا وافترقا. وكتب محسن حينها: لا ولن نسمح أن يأخذونا خارج لبنان. وقرر منذ ذاك الحين ترك السيد موسى».

 

 

 

هي تقرر السكوت عما لا تريد قوله. هي تعرف ما تقول وما لا تريد أن تقول. هي- يقال- باطنية. وتخبر عن السيد موسى: «كان ذكياً فوق العادة. لم يكن مجرد شيخ عادي. كان يملك من رجاحة العقل الكثير. داهية كان. ويعرف كيف يتكلم وما يريد. هو تقرّب من محسن الذي كان يملك شبكة علاقات ممتازة مع المسيحيين في هذا الشرق، كنا ننظم له لقاءات مع رجال الدين المسيحيين. وهذا دهاء. وتستطرد عائدة إلى حارة حريك: كانت ضيعة لبنانية قبل أن يطغى عليها الشيعة، أنا عرفتها يوم كان الموارنة أكثرية. لكنهم، في الحرب، طردوا بقوة السلاح الفلسطيني في البداية. الموارنة، مع احترامي لهم، جبناء تركوا الحارة وغادروا».

 

 

 

 

 

نصحح لها: هذا جبن أم شعور بالخطر؟ تجيب: “كان الفلسطينيون يتصرفون على انهم “البعبع”. استخدموا السلاح لطرد المسيحيين فباعوا أملاكهم وغادروا”. ألم تتمنّ سلمى لو غادر لقمان هو أيضاً لحظة شعر بالخطر؟ تجيب: “لقمان لم يقل يوماً إنه شيعي. هو لبناني. إنه ابن حارة حريك. هذا ما كان عليه لقمان. هو ابني وصديقي وأعرفه. كان رهانه على لبنان فقط وأبى أن يحمل أي جواز سفر آخر”. تتمهل وتتابع: “مجيء السيد موسى الصدر خرّب كل العلاقات. كان رجل علم على عيني ورأسي. كان يصلي لكنه لم يكن وطنياً. هو أتى من إيران”.

 

 

 

كتبت سلمى في “النهار” عن الشوام وتقول: “كانوا يسمون اللبنانيين والسوريين في مصر شوام. وأعددتُ الماجيستير عن الهجرة اللبنانية السورية الى مصر. دراستي موجودة في الجامعة الأميركية. كتبتها باللغة الإنكليزية. وأتى دكتور من الجامعة اللبنانية فأخذ زبدة ما كتبت ونشر دراسة عن دار الشروق وكلما يتحدثون عن شوام مصر يذكرون اسمه لا اسمي. إنسي إنسي…”.

 

 

لدى المرأة التسعينية عتب على أمور كثيرة. هي باطنية لكنها حين تقرر الكلام تفعل. تتحدث سلمى عن أصدقاء العائلة أيام العزّ: “ريمون إده كان صديقنا الوفي. وفي الشدّة كان دائماً الى جانبنا. يوم خطف الفلسطينيون ابني هادي لم أذهب إلا إليه. كل زعماء المنطقة كانوا يرتادون بيت محسن سليم. كان منزلنا مفتوحاً دائماً”.

 

حافظت هي على لهجتها المصرية: “عشتُ ستين عاماً في لبنان لكنني لا أعرف التكلم باللهجة اللبنانية. إذا استخدمت هذه اللهجة يظنون أنني “أتمسخر”. كنت أفضل التكلم بالإنكليزية. لم أحب الفرنسية بسبب معلمتي واسمها ميليا. كانت قاسية جداً. أرادت ان نتكلم الفرنسية بغض النظر إذا أحببنا اللغة أم لا. كانت ميليا “ست متعبة” لذلك لم أحفظ إلا: Bonjour و Comment ça va”. ماذا عن علاقتها مع زوجات السياسيين أيام زمان؟ تجيب: “بقيت علاقتي بهنّ رسمية. كانت الأقرب زوجة محمود عمار لكنها لم تتطور الى صداقة. صديقي الوحيد كان الكتاب. كنت اجامل فقط. وبقيت أكتب في “نيوزويك” و”النهار”. كان بيتنا مفتوحاً منذ أيام والد محسن وأتمنى أن يبقى. إنشاالله يعود هادي الذي يعلّم في السوربون”.

 

 

 

هل استمدّ لقمان منها شجاعة البقاء في جغرافيا لفظته؟ تجيب: “هذا بيته. يتركه؟ الى منّ؟ لقمان أحبّ حارة حريك والبيت والناس. في بيته هو “الريّس”. هناك أصله وفصله”. لكن الحارة اختلفت كثيراً وما عادت تشبه نفسها؟ تجيب: “أنا أصريت أيضاً أن أبقى في البيت بعد محسن ولقمان لأن زوجي وابني أحبا البيت كثيراً. أحبّ لقمان حارة حريك حتى آخر رمق”.

 

 

تعود لتتكلم عن أيام العزّ: “دار جدي كان يضم شوام مصر. هنا يعرفون يعقوب صروف وجرجي زيدان… هذا على عيني ورأسي، لكن هناك نقولا الحداد من جون مهم جداً جداً و”قلال” يعرفونه. أنا كتبت عنه وعن إبراهيم المصري. نقولا الحداد هو من ترجم كتاب أينشتاين”.

 

 

تحتفظ في مكتبتها في الحارة بمراسلات كثيرة جرت بينها وبين وديع فلسطين. تحب سلمى مرشاق سليم الناس كثيراً. وتحب مصر كثيراً كثيراً. لبنان الدم الذي يسري فيها ومصر القلب الذي يخفق فيها. وأكثر لحظات السعادة التي عاشتها كانت حين رأت نجاحات أولادها. لكن، ماذا عن اقسى اللحظات؟ تجيب دامعة: “لحظة قتلوا ابني وصديقي لقمان… الله يجازيهم. دعوت من قلب قلبي أن يجازيهم الله. ولم أقل الله يعميهم لأنهم عميان”. وقبل أن تختم تُمسك ورقة وقلماً وتكتب بيدين ثابتتين على الرغم من التقدم في العمر: اللهم لا أطلب ردّ القضاء وإنما اللطف فيه”. وهي التي طالما رددت قبل اغتيال لقمان: يا ربّ لطفك. لكن القدر، للأسف، لم يلطف. المجرمون باغتوه لكن الربّ يجازي.

 

 

 

نتركها تقرأ الإنجيل. هو رفيق سلمى مرشاق سليم الأحبّ اليوم. نسأل سؤالاً أخيراً: ماذا عن بيت محسن وسلمى سليم في حارة حريك؟ ترينا ابنتها رشا- بعيداً عن نظر الوالدة- صوراً لبيت يتناثر فيه كل شيء مرددة: اللهمّ ألطف بنا ونجنا مما نخاف.