IMLebanon

«سماحة» العدالة

من يظن اللبناني نفسه؟ من أين له الحق في أن يكون ممسكاً بترف العدالة؟ من أين جاءه وهم الانتساب إلى امرأة قيصر، «سبحان من عرف قدره ووقف عنده!».

في خلال يومين قيل في القضاء أقذع الهجاء: «فضيحة الفضائح»، «حكم مهزلة»، «حكم سخيف ومهزلة»، «جريمة تغطي جريمة»، «قرار معيب»، «القضاء اللا مسؤول»، «أحكام المهرجين»، «قرار خنفشاري»، «تذكير بمهزلة»، «أحداث مار مخايل وفايز كرم وسامر حنا»، «ونعم لإقفال المحكمة العسكرية بالشمع الأحمر»…

من يظن اللبناني نفسه؟ هو لم يعتد على عدالة نظيفة. «العدالة» التي يقبلها هي العدالة التي تناسبه وتتناسب وأهواءه، وتنسجم مع موقعه. يغض الطرف ويتعامى على حكم لا يقتص من جرم ينتسب إليه بالسياسة أو بالطائفة أو بالمذهب، ويرفع عقيرته غضباً إذا أصاب «حكم عادل» (نسبياً) منهماً أو مرتكباً من أتباعه.

من يظن اللبناني نفسه كي يطالب بعدالة صافية؟ هو لا يستطيع احتمال تطبيق القانون. هو فيلسوف التبرير ومحترف تدوير الزوايا والمجتهد الدائم في إيجاد التسوية على حساب الدستور والقانون والناس والمؤسسات والقيم، وهو الفائز الدائم في مباراة ازدواجية المعايير، ولعبة الشتاء والصيف على سقف واحد.

من يظن اللبناني نفسه؟ لماذا هذا الادِّعاء المفضوح؟ فمن قبل غبن المحاصصة لا يصدق كلامه في القضاء. ومن تطيّف وطنياً سهل عنده التغاضي على آثام جماعته واستقطاع أعراض الخطأ عند خصومه. يريد من القانون أن يحميه عندما يدوسه بقدميه، وأن يقتص من خصومه عندما يخالفونه. هو مرتكب يطالب بالبراءة لنفسه، ويطالب بتطبيق العقوبة على خصومه. هو يريد قضاءً بصيغتين: قضاء معه وقضاء على غيره.

الحكم الذي أصدرته المحكمة العسكرية، بحق ميشال سماحة ينتمي إلى فصيلة الأحكام في لبنان: هو حكم يناسب فريقاً ويغضب فريقاً. أليست هي مسيرة الأحكام الإشكالية، السياسية، في لبنان؟ الجرم الذي سرده صاحبه من خلال شريط موثق، والذي ظهر فيه سماحة، مرتكباً مشهوداً، غير مرتبك في ما ستؤول إليه التفجيرات، من قتل لأبرياء، يستحق عقوبة غير مخففة. عقوبة توازي الجرم، كما لو كان سيقع. مفزع جداً هذا التسجيل. مريع جداً هو الاستهتار بأرواح البشر. مهوّل جداً هذا الاسترخاء في لحظة توزيع العبوات لحصد أجساد وزرع فتنة… ولكننا في لبنان. فلكل حكم مقام. والمقامات في لبنان بحاجة إلى من يمنع عنها العدالة. هل نستطيع أن نقول إننا نعيش في ظلمة عادلة؟

ردود الفعل على الحكم المخفف الصادر بحق ميشال سماحة فتحت الملفات القضائية. الفريق المتساهل مع الحكم المتساهل، عدّد الحالات التي لجأ فيه القضاء إلى أحكام مخففة على حالات جرمية فادحة، تسليحاً وتحريضاً وقتلاً. حتى أنه أشار إلى أسماء «لأبطال» وأمراء محاور سارع السياسيون، جهاراً نهاراً، لإطلاق سراحهم وإعادتهم بسيارات مفخخة، بأرقام وزارية، إلى ساحة العاصمة الثانية، حيث رُفع المتهمون على الأكتاف، وعوملوا كأبطال، فيما وُجهت أسهم الاتهام إلى من «دُبِّر له كمين الاعتقال». ولم يكن غريباً أن يصبح هذا «المبدأ» من جرائمه، أحد قادة «النصرة» و»داعش» في طرابلس.

في إضبارة كل فريق، ملفات متشابهة. المثل السائد يطابق حالة لبنان: «حاميها حراميها». كل فريق يمتلك الأسانيد الموثقة بالأحكام التي تناسب فريقاً، وتصيب فريقاً. لم يتم العفو عن سمير جعجع إلا بمعية الإفراج عن الإسلاميين… أحكام مخففة على أمراء المحاور، يقابله إهمال متعمد وتأجيل محاكمة الإسلاميين لسنوات، وبعضهم بريء، أو بعضهم متهم بأفعال جرمية، تخطت فترة اعتقالهم بسنوات، ما يتوقع من حكم يعاقبه بسنوات أقل من فترة الاعتقال. وليس هذا جديداً في لبنان، ففي العام 1949، أعدم زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة مع ستة من رفقائه، وزعوا على الطوائف الست الكبرى في لبنان… هذا هو ميزان العدالة في لبنان، فكما تكونون تحاكمون. المجتمع مطيّف من رأسه إلى أخمصه، السلطة محميات طائفية بلا صرامة ولا مراقبة، محكومة ومتحكمة وفق منطق العشائر: «ما لنا هو لنا، وما لكم هو لنا ولكم»، والخلاف على المشترك بين ما هو لنا وما هو لغيرنا.

في سجل القضاء اللبناني، قديما وحديثاً، حكايات وقصص تصعب مواءمتها مع القوانين. في سجل الطعون النيابية ما يندى له الجبين. اتهمت الوصاية السورية بتخريب القضاء وتلزيمه للأمن. ولكن ماذا كان قبل الوصاية وماذا أصبح بعدها؟

من حق فريق «14 آذار» أن يغضب. الحكم القضائي على سماحة لا يتناسب والمشهد المريع جداً، وهو بالصوت والصورة فقط، فكيف إذا حدث. من حقه هذا الغضب، بشرط أن يغضب من أحكام صدرت في حالات جرمية مشابهة، لا قولاً، بل فعلاً منجزاً. فهل يمارس واجب هذا الحق. ومن حق فريق «8 آذار» أن يلوذ بصمت أو أن يرى في الحكم على سماحة «عدالة مناسبة»، بشرط أن يكف عن مساءلة الآخرين عن طلب العدالة ولو في لاهاي. امرأة قيصر اللبناني قد تعرت من عفافها، ولا يعني ذلك أن «عدالة لاهاي» عادلة، إذ يشوبها، منذ انطلاقتها عورات كثيرة.

مأساة العدالة في لبنان، أصل لا فرع. شبيه لبنان بأنظمة العدالة في النظام العربي. أي قضاء في سوريا والعراق والسعودية ومنظومة دول الخليج. أي قضاء في ظل الأنظمة الاستبدادية؟ أي قضاء في منظمات التكفير العربية لتقتص من براءة الناس؟ أي عدالة في مصر السيسي؟ إعدامات بالمئات، بحق رئيس سابق وبحق خمسة شهداء من «حماس»؟

من يظن اللبناني نفسه؟ إنه يعيش في القرون الوسطى، ويطالب بعدالة عصر ما بعد الأنوار في الغرب؟ الأصل الذي ننتمي إليه لا يمت إلى العدالة المؤسسة على دولة القانون والدستور والمؤسسات والقيم.

اليوم حكم سيئ. بالأمس، كانت الأحكام أسوأ، وغداً بانتظار الكارثة… لا أحد بريء. منطقي جداً ما يصاب به اللبناني من أحكام. بكل أسف. «لا يمكن إصلاح بيضة فاسدة».