لا شكّ في أنّ محاكمة الوزير السابق ميشال سماحة ستَبقى وصمةَ عارٍ على جبين العدالة في لبنان، إنّما لا شكّ أيضاً في أنّ المنظومة الأمنيّة التي خفَّفت الحكمَ عليه لجأت إلى أساليب قانونية تَقيها المحاسَبة والمساءَلة وتُفسِح لها مجالاً للتبرير، فكان أن فُصِل ملفّ سماحة عن ملفّ علي مملوك لتخفيف حُكم الأوّل ولعدمِ القدرة والرغبة في معاقبة الثاني. إلّا أنّ العُذرَ بالنسبة إلى المواطن اللبناني وإلى الضحايا المفترَضين الحَتميّين لسماحة ومَن خَلفه، سيَبقى أقبحَ من الذنب.
بعد التحليل والمتابعة مع مصادر أمنية، يتّضِح أنّ القاضي خليل ابراهيم الذي أصدَر الحكمَ في حقّ سماحة تمَكّنَ مِن تخفيف مدّة العقوبة استناداً إلى فصل ملفّه عن ملف مملوك والضابط المرافق، ممّا أدّى فعلياً إلى نتيجتين:
1- وقف محاكمة النظام السوري، لأنّ التذرّع اليوم بعدمِ تبَلّغ مملوك لفصلِ الملف، استُعمِل ذريعةً لوقف ملاحقة النظام السوري بالاعتداء على الأمن الداخلي اللبناني.
2- حين انفصلَ الملف أصبحَت محاكمة سماحة ثانوية وكأنّنا فصَلنا الأفعال التي ارتكبَها عمداً للتقليل من قيمتها أو من جَسامة خطرها، لذلك كان الفصل ضرورياً. إنّما الخطورة تكمن في الجهة التي تقفُ وراء الاستراتيجية القانونية لفصلِ هذا الملف، لأنّها بذلك تمنَع محاكمة النظام السوري، وبالتالي لا يمكن إبقاء ملفّ سماحة مع ملف مملوك والخروج بعقوبة خفيفة، وإلّا لكانت القضيّة عظمَت وبدَت فضيحةً كبرى ظاهرةً إلى العيان.
أمّا عن قانونية العقوبة التخفيفيّة في هذه الحالة، فتُجيب المصادر نفسُها أنّها ليست قانونية، لأنّه لا يمكن لسماحة أن يستفيد من أسباب مخفَّفة، ويجب على المحكمة أن تحكمَ عليه أقلّه بسبع سنوات، فيما فصلُ الملفّات هو فصلٌ إداريّ ويتمّ وفقَ قانون المحاكمات الجزائية إذا كان هناك وقائعُ غيرُ متّصلة ببعضها وتتناول أوصافاً جرمية مختلفة، وتتعلق بجرائم منفصلة عن بعضها، بمعنى آخر ليس هناك «وحدة جرمية»، وبالتالي فصلُ الملفّ لا يؤدي فعلياً إلى تصنيف العقوبة، ولأنّ الادّعاءَ حُفِظ بـ»محاولة الجنايات»، بمعنى أنّ كلّ الجنايات التي تمّ الادّعاءُ فيها جاءت معطوفة على المادة 200 التي تُصَنِّف هذه الأعمال بـ»المحاولة»، وبالتالي تُخَفّض العقوبات حتى النصف.
النيّة الجُرمية
في سياقٍ متّصل، توضِح مصادرقانونية أنّه وإذا اكتملَت عناصر المحاولة الجرمية، حتى لو لم تتمّ فعلاً، أي إذا كان هناك مِن سبب منعَ حصول الفعل الجرمي وهذا السبب خارجٌ عن إرادة الفاعل، يُعتبَر وكأنّه ارتكبَه حتى ولو لم يفعل. فمَن استلَّ مثلاً سلاحاً ليطلقَ النار لكنّ الرصاصة لم تنطلِق لسببٍ خارجٍ عن إرادته، يُدان وكأنّه أطلقَ النار وأصاب.
وهذا يُعيدنا إلى الحقبة التي لحقَت اغتيالَ الرئيس رفيق الحريري، فالاعتداءات والتفجيرات التي حصلت في الداخل اللبناني، وهي كثيرةٌ، (متفجّرة الجديدة، المنصورية، الكسليك والاغتيالات التي تلتها)، قد نُفِّذت بعدّة ومعدّات من النوع نفسِه الذي نَقله ميشال سماحة.
لكنّ المصادر تشير إلى أنّه حتى اليوم لم يُثبَت أنّ تلك المعدّات هي من «العدّة» التي من الممكن أن يكون قد نَقلها سماحة، عِلماً أنّه لم يتمّ التحقّق من ذلك، لكنّ الأكيد أنّ تلك المعدّات هي مِن «العائلة» نفسها والصنفِ نفسِه.
وتشير المصادرالأمنية نفسُها إلى أنّ متفجّرات الجديدة والأشرفية والكسليك هي تفجيرات متنقّلة، بمعنى أنّها «موضَّبة» كتلك التي نَقلها سماحة، وهي كلّها «T.N.T» ومتشابهة. وتشَدّد على أنّه إذا أعِيدَ فتحُ التحقيق مجدّداً، وعُيّن خبَراء عسكريون، من الممكن معرفة إذا ما كانت التفجيرات التي وَقعَت في تلك الحقبة شبيهة إلى حدٍّ كبير بالمتفجرات التي فُكّكت وحُفِظت وما زالت في يد شعبة المعلومات، وبالتالي إذا قارنَت الجهات الأمنية وقاربَت المعدّات التي في حوزتها مجدّداً، سيتّضح إذا كان نوع المتفجّرات هو نفسه.
«أنا لا أغفر حتى لنفسي»
من جهةٍ أخرى، في الوقائع، أمامَنا فاعلٌ نَقلَ متفجّرات وموادَّ ملتهبةً عبر الحدود، واعترفَ في التحقيق الأوَّلي بأنّها لاغتيال شخصيات سياسية وأمنيّة ودينية معروفة. وبالتالي هذا الرجل كان على يقين بأنّ العمل الذي سيُرتكَب بهذه المتفجّرة هو عمل جرميّ، ولم يكن على معرفة فقط، وهو لم يعترف بجرمه فقط، بل قال في آخر جلسة تحقيق معه: «أنا لا أغفر حتى لنفسي»، وهذا يعني أنّ هذا الرجل اتّجَه بنِيّته وإرادته إلى قتل المفتي مالك الشعّار والبطريرك مار بشارة بطرس الراعي!
مملوك والأسد
أمّا بالنسبة إلى ظهور مملوك إلى جانب الرئيس السوري بشّار الأسد في اليوم نفسِه الذي صدرَ فيه الحُكم المخفّف على شريكه سماحة، فتَعتبر المصادر نفسها أنّ النظام السوري اختارَ الأمرَ عمداً ليكونَ رسالةَ تحَدٍّ إلى الدولة اللبنانية، يقول فيها أنتم اتَّهمتُم مملوك وسماحة، وأنا أقول لكم سماحة سيَخرج بعد 6 أشهر، ومملوك ما زال قابعاً قربَ الأسد، ممّا يعني أنّ النظام السوري وحلفاءَه ما زالوا خارج نطاق العدالة.
التمييز
وفي ما يختصّ بتمييز الحُكم، تشير المصادر إلى أنّه لو حصلَ، فإنّ محكمةَ التمييز العسكرية لا تحكم بعقوبة تَفوق العقوبة المحكوم بها، ممّا يَعني أنّ التمييز لا قيمة له.
وبالنسبة إلى القدرة القانونية لوزير العدل لتغيير الحكم، توضح المصادر أنّ اللواء أشرف ريفي لا يمكنه تغيير الحكم، لكنْ يمكنه أن يطلب في مجلس الوزراء إقالةَ ومحاسبة العميد ابراهيم وتعيينَ آخر، عِلماً أنّ مدّة الخدمة المتبقّية للعميد ابراهيم هي فقط ستّة 6 أشهر.
إنّما الجدير قوله انّ الاقتصاص مِن المسؤول الذي يُخطئ في حكمِه وفي وظيفته، يَبقى عبرةً لغيره ولو أنّ المدّة المتبقّية لحكمِه قصيرة. فالاقتصاص ضروري للعِبرة، وفيما أحالَ وزير العدل القاضية ليلى رعيدي إلى التفتيش القضائي، يمكن لوزير الدفاع وفقَ المادة 14 من القضاء العسكري أن يُحيلَ هذا الضابط إلى التفتيش العسكري، فلماذا لم يَحصل الأمر حتى تاريخه؟
هناك أمرٌ مخفيّ، بل هناك منظومة سياسية متوقّفة، وهذا يؤكّد أنّ تلك المنظومة تقف خلفَ هذا القرار، لأنّ وزير الدفاع لم يتحرّك ومجلس الوزراء لم يضغَط عليه، في الوقت الذي يَعرف المعنيّون أن مَن يُعَيِّن رئيس المحكمة العسكرية هو وزير الدفاع، فأين مجلس الوزراء وأين الدولة اللبنانية من محاكمة المخطِط والمنفِّذ؟ وهل يُفلِت النظام السوري من العقاب والحكم عليه بالجرم المشهود مجدّداً؟