بالأمس، ميشال سماحة. قبله اعتقال الضباط الأربعة. ما بينهما أحكام متناوبة، مرة عليك ومرة على غيرك. هكذا يكون الظلم في الرعية، عدالة في المساواة. تلك مرحلة رثة يكون فيها القضاء موجوداً، والعدالة مفقودة. هذا بعضٌ من تراث لبنان. فلنتوقف عن امتداح «الوطن»، بمدرسة الحقوق الرومانية في بيروت. نقول رومانية ولا ننسبها إلى لبنان.
كالعادة، يختار اللبناني معسكره ويتخندق فيه. هو هناك في السراء والضراء، في الصغيرة والكبيرة، يقول الشيء وضده. يتّهم الآخرين بما فيه وليس بما فيهم. تناسُب العيوب والمظالم يُفضي إلى معارك وهمية تنتهي بتسوية. يشكل الحكم بالإفراج عن ميشال سماحة نموذجاً: أصوات مرتفعة، مواقف إدانة للقضاء، نعيٌ للعدالة، اقتراحات بإلغاء محاكم، يعرف أصحابها أن دونها معارك لم تنته بعد في اليمن وسوريا والعراق وليبيا.
معروف أن قوس العدالة لم يكتمل في لبنان. قضاء البلد متقشف في عدالته، مفرط في استنسابيته، يتقن التأجيل إذا اقتضى الأمر، ويُسرع إلى التعجيل إذا جاءه الأمر. وأصحاب الأمرة في لبنان هم أنفسهم، أصحاب الدولة والمعالي. وهم أنفسهم أسياد الطوائف والمذاهب، وهم بعينهم الذين يضعون أيديهم على أيدي القضاة، وبعض الأيادي القاضية رخوة جداً. ليس القضاء قضاء في أي دولة، إلا بمقدار ما يناصب أهل السياسة العداء، وبمقدار ما يتقشّف القضاة عن الظهور في محافل ومآدب واحتفالات أولي الأمر في السياسة والمذهب والطائفة. أما عن الأموال، فلا تُسْأل، إذ أولى مَن يُسأَل، هم المسؤولون عن «من أين لك هذا»؟
ما ارتكبه سماحة، أكبر من أي حكم يمكن أن يصدر عن محكمة لبنانية، عسكرية كانت أم مدنية عادية أم دولية. الجريمة ليست تهمة، بل هي بيِّنة. وجريرته ستبقى ملتصقة به، طالما في لبنان ذاكرة حية ومحايدة وتؤمن بالعدالة. لكن المسألة ليست في هذا الحكم، بل في كل حكم يُشبهه. وفي سجلات المحاكم أحكام يَندى لها جبين العدالة، إلا في لبنان. عندنا القرارات لا تُقاس بأحكام القانون، بل «بالمحكمة السياسية». وتقتضي «الحكمة السياسية» في لبنان أن يكون الحكم متوازناً وموازياً للقوى السياسية النافذة، محلياً وإقليمياً. وإلا كيف نفسِّر، في لحظة انكسار التوازن السياسي شعبياً، اعتقال الضباط الأربعة، وبقاءهم في السجن، حتى إلى ما بعد التوصية الدولية القضائية بالإفراج عنهم؟ وإلا كيف نفسِّر، في لحظة انكسار التوازن نفسه، وقبيل وصول الرئيس سعد الحريري إلى بوابة المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، إسقاط حكومته وإعدامها، مع مضبطة اتهامية، لقادة أمنيين وقضائيين تؤكد ضلوعهم بفبركة شهادات الزور؟ ثم كيف نفسِّر، في لحظة توازن صعبة، أن تؤلف فيها حكومة «المصلحة الوطنية»، يصبح فيها القائد الأمني المتَّهم وزيراً للعدل؟
مثل هذا لا يحدث إلا في لبنان. والمسألة لا علاقة بالقضاء، وباحترام القوانين، بل بالاحتراب السياسي الذي شلّ الطائف، وأقعد المؤسسات وأقفل المواعيد الرئاسية والبرلمانية، وشوَّه العمل السياسي، بحيث لا يمكن فهمه إلا بمنطق العصابات والمافيات. ولقد قيل مراراً إن سلوك المافيات أرقى من سلوك عدد من القوى السياسية والطائفية في لبنان. المسألة ليست في بنية القضاء اللبناني، بل في بيئة هذا القضاء الموزَّع بين التزامه بالقوانين، وبين انتماءاته الحامية له والمدافعة عنه من المؤيدين، أو المتعرّضة له من الخصوم. المسألة ليست في القضاء، صحيح. ولكن القضاء ليس بريئاً أبداً. لم يخرج منه بعد «أصحاب الأيادي البيض»، لقد تأخّروا كثيراً وقد لا يحضرون أبداً. غرغرينا مزمنة تحتاج إلى بتر.
الدفاع عن ميشال سماحة صعب. شنيعته قياسية. ولكنه ليس وحده. تبرئة سماحة أصعب، وهو المعترف بما ارتكب، ولا يخفف من ارتكابه أنه انزلق فتورّط، ولا يقلل من خطورة فعلته أنه لم يرتكب الفعلة. الأسوياء عقلياً وأخلاقياً يعتبرون وكأن الفعلة قد حصلت، وهذا ما لا يراه القانون. إلا إذا شاءه صانع الأحكام.
المشكلة أبعد من الحكم على سماحة. إن لبنان مكشوف سياسياً، ومكشوف عجزاً، ومكشوف جداً قضائياً. إن سألت قاضياً بسمعة مقبولة عن جسم القضاة، أشار إلى فساد. إن سألت محامين عن عفة امرأة قيصر، اتّهموها بالشناعات والفسق. وإن سألت قضاة بسلوك المحامين، طأطأوا جباههم خجلاً… ولا مَن يحاسب أبداً. أجهزة الرقابة معطلة. أجهزة التفتيش مُقالة ويتجاهلها أصحاب الحل والربط. المجالس العدلية معطوبة بالتوزيع المذهبي. المجلس الدستوري، حدِّث ولا حرج. تُملى على بعضهم الأحكام ولا يُملونها.
ولأن المشكلة بهذا المقدار، أقدم الفريق الذي يشكو من حكم القضاء على ميشال سماحة بالإخلاء، إلى تسليم القضاء اللبناني إلى القضاء الدولي، فاجترح للبنان محكمة خاصة لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري. وهي محكمة مكلفة وتتعرّض لتشكيك من الفريق الذي يرى أنه سيكون فريسة الأحكام. فيما تسير المحكمة ببطء غير مسبوق، جعلت المنضوين في صفوفها وعلى مقاعدها يتثاءبون ضجراً ويرون أن أحكاماً بهذا البطء تفقد جدواها بمرور الزمن وتقلُّب الأحوال وانقلاب الموازين.
العدالة شيء من الحطام. ضحايا تقتتل في ما بينها. لا معركة حقيقية لتصحيح الجسم القضائي وتطهيره وتفعيله.
يستحق اللبنانيون هذه العقوبة. لقد استسلموا لغرائزهم المذهبية وغرقوا في التبرير (والتبرير فلسفة العقم) وتفانَوا في تعزيز جوقة الكلام الثأري، الذي يستثير دائماً الشبيه عند الخصم. يستحق اللبنانيون ذلك، لأنهم رضَوا أن يرتبطوا بمصالحهم الضيقة على حساب المصلحة العامة (بالمناسبة، هذا المصطلح بات نادراً في مرحلة استفحال مصطلح المحاصصة). ويستحق اللبنانيون هذا القضاء، لأنهم قبلوا ورضخوا وحرّضوا السياسيين على الاستقواء، فداسوا القوانين وجعلوا العدالة نصب نعالهم.
عويل ونواح المتضررين من أحكام القضاء مفهوم، لكنه متهم بالانحياز. والردود مفهومة كذلك، وهي أيضاً متّهمة بالانحياز. انحيازان لا يصنعان قضاء ولا يقودان إلى عتبة الدولة. حقوق اللبنانيين منتَهَكة، ولا طريق لاسترداد بعضها إلا بالمرور عبر المعابر السياسية الطائفية. لكل فريق سياسي حصة في الأمن، في الاقتصاد، في التخطيط، في التربية… وفي القضاء. نعم، القضاء محاصصة من فوق إلى تحت. وعليه، من المفترض ألا نسمع عويل المحزونين اليوم، لأنهم سيكونون في ما بعد من الشامتين أو المطبّلين لأحكام نقيضة.
على اللبنانيين أن يحلموا على قدِّ المسموح. وما هو متاح لا يعدو أن يكون بحجم ثقب الإبرة.
أخيراً: لا هذا ضحية ولا ذاك ضحية. إنما نحن الضحايا.
دولة بلا قانون هي مشاعٌ للأقوياء، يعيثون فيها أحكاماً.
هذا هو لبنان… فخذوه.