في العادة، ترسل الولايات المتحدة إشارات التحذير الأمني إلى لبنان. عند أيّ استحقاق ومفترق طرق، ولحظة تحتدم فيها الخلافات السياسيّة المحليّة، وتصطدم التيارات الإقليميّة، كما هو حاصل اليوم، تكون واشنطن الجهة الأكثر اهتماماً بإعطاء الأولوية للاستقرار الأمني، في لبنان وتحذير الجهات الأمنية فيه من الاحتمالات الخطرة، ولا سيما في ضوء علاقاتها بالجيش تحديداً.
مع كل الإشارات الخطرة الحالية، التي يسبّبها الواقع الاجتماعي المتدهور وازدياد السرقات والجرائم واحتمالات استغلال الفقر والبؤس الاجتماعي في فتح ثُغَر أمنية، تبدو واشنطن الأكثر ابتعاداً عن الملف اللبناني. وإذا كان من الواضح أن سياسة واشنطن منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية تترجم بمزيد من الضغط، وتحديداً على حزب الله والعهد، فإن مرحلة ما بعد الانتخابات فاقمت سوء الوضع الذي لم يعد عالقاً فحسب على إيقاع هذا الضغط، بل إن المنحى الضبابي الذي تعيشه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، حول الملف النووي، وملفات المنطقة التي هي على تماس بين إيران والسعودية وواشنطن، يساهم أكثر فأكثر في جعل الساحة اللبنانية أكثر تفسّخاً. والكباش بين فريق الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ومحاولة السيطرة على فريق بايدن، والتشرذم بين الديموقراطيين وتقاطع فريق منهم مع الجمهوريين حول منحى السياسة الخارجية تجاه السعودية وإيران، والضغط الإسرائيلي في المنطقة الذي تتوجّس منه أحياناً الإدارة الأميركية، يجعل لبنان أكثر عرضةً للاهتزاز الداخلي وتحوّله إلى ورقة مساومة، من المبكر التكهّن بمصيرها. والمساومات قد تكون، في أحيان كثيرة، «على الساخن»، والأرضية اللبنانية الحالية ساحة خصبة لها. يضاف إلى هذه الضبابية المواقف الفرنسية المتناقضة، والخلافات في وجهات النظر الى الحد الأقصى، بين إدارتَي الإليزيه والخارجية في رؤيتهما لطريقة إدارة الملف اللبناني والتعامل مع المسؤولين اللبنانيين، ما يجعل الوضع الداخلي أكثر اهتزازاً، منذ أكثر من ثمانية أشهر، رغم أن الأوراق الأمنية التي تشغل بال الأوروبيين، لا تزال هي نفسها، إن لجهة النازحين السوريين، أو تسرّب أفراد شبكات إرهابية الى أوروبا، يضاف الى ذلك حجم الانهيار الاقتصادي الذي يضاعف من المحاذير الأمنية.
جاءت الرسائل التي حملها وزير الخارجية المصري سامح شكري الى بيروت لتعيد تسليط الضوء على الواقع الأمني الذي يخضع لمزيد من المساومات المحلية، وخصوصاً بعدما توالت تصريحات لمسؤولين سياسيين وأمنيين حاليين وسابقين حول احتمالات التدهور الأمني، رغم أن ثمّة من يلفت الى أن التدهور الذي سبق أن وصلت تحذيرات منه، لا يزال مضبوطاً ومحصوراً بجرائم وسرقات محدودة الطابع، ولم يأخذ بعد مسلك التفلّت الكبير، الذي كان يفترض أن يعكسه التدهور الاجتماعي والاقتصادي على شرائح اجتماعية تتراجع مداخيلها وتقلّ قدرتها على العيش فوق خط الفقر. إلا أن الخشية من التفلّت تكمن في عوامل التدخل الخارجي بقصد إحداث بلبلة لحصد مزيد من التنازلات السياسية، وهذا في نظر البعض فحوى الرسائل الأمنية المرتبطة بالضغط السياسي لتأليف الحكومة. لكن ذلك لا يعني أن مرور الوقت وتضاعف الأزمات الصحية والغذائية، وسط ترهّل أمني قلّ نظيره ينكشف يومياً من خلال أداء المؤسسات الأمنية المتعثر، لن يساهم في الانتقال السريع من وضع مقبول الى وضع سيئ، علماً بأن مظهراً أمنياً أساسياً انسحب من المشهد الميداني، وهو وقف التظاهرات وقطع الطرق، الذي كان يمكن استغلاله أكثر في إحداث توترات متنقلة. والتحذيرات المصرية تساوي بأهميتها الرسائل السياسية التي أبلغها شكري الى كل من التقاهم ووصلت إلى الذين لم يجتمع بهم، لأنها تأتي من بلد يعرف تماماً الساحة اللبنانية وله حضور فيها منذ سنوات طويلة، ويعرف وضعها الأمني بكل مندرجاتها الخطرة وانعكاس ذلك على الساحة الإقليمية. وهي تصل في وقت يحفل فيه لبنان بعجقة استخبارية أمنية، على كل المستويات. أما التعامل معها بجدية، فيطرح تحدّياً على المؤسسات الأمنية التي تئنّ من وقع التدهور المالي إدارياً ولوجستياً، كما أحوال عناصرها البشرية بعدما تدهورت قيمة رواتبهم. فكيف يمكن التعويل على ضبط الأمن في مؤسسات أمنية باتت تتّكل على مساعدات لوجستية للصيانة، وتتلقّى إعانات غذائية لعناصرها كما يحصل في الجيش من تركيا ومصر وفرنسا وإسبانيا بكميات وأنواع مختلفة الحجم، وتطلب مساعدات مالية لتثبيت بعض أوضاعها الداخلية، علماً بأن المؤسسات الأمنية تعمل على الحفاظ على مكتسبات قطعاتها الاستخبارية، في ظل تسجيل تراخٍ استخباري في بعض المناطق، وتعزيزه في مناطق أخرى، وترهّل أمني غير مسبوق لا علاقة له بتأليف الحكومة. فهذه الأجهزة، تملك استقلالية تامة في أن تفرض مشهداً أمنياً على قدر التحديات، ولا سيما في مناطق تشكل بؤراً جاهزة، وأخرى تشكل حساسيات نتيجة عوامل الفقر والتباينات السياسية والطائفية، بدل الغرق في متاهات سياسية، وخصوصاً أن فترة السماح انتهت وبعض المسؤولين الأمنيين باتوا مطالبين أكثر من غيرهم بتعزيز وجودهم الأمني على الأرض وفي الاستخبارات والمعلومات، بدل انتظار رسائل التحذير من الانفجار.