ظلمًا يحاول البعض المقارنة بين سامي الجميّل ووالده وعمّه وجدّه، وكذلك يظلمه جدًا حين يقارنه برؤساء أصحاب رؤية كجورج سعادة وكريم بقرادوني. ولكن لا يمكن لأي كتائبي قديم، أو من جيل جديد يقرأ تاريخه بشكل صحيح، ألّا يقارن الحقبات ببعضها البعض، وكيف تدهور حزب الدولة إلى حزب ثورة يحيي ذكراها السنوية مئتا شخص في ساحة تسع مئات الآلاف.
في سبعينيّات القرن المنصرم لم تكن الآليّات الإحصائيّة متوفّرة ولا وسائل التّواصل الاجتماعي، ولكن نسبة المنتسبين إلى «الكتائب» كانت كبيرة جدًّا خصوصًا بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975.
رافق الانتفاخ البشري انتفاخ ماديّ وعقاريّ، فالحزب أصبح سلطة الأمر الواقع أو الدّولة، ما سهّل تحصينه بأملاكٍ خوفًا من أيّ ضيق في المستقبل، فمستقبل «الكتائب» كان مرتبطًا بمستقبل المسيحيين آنذاك.
أملاك «الكتائب» اليوم تقدّر بملايين الدولارات، بدءًا من عقار مطار حماة إلى مئات العقارات والأراضي المنتشرة على ربوع الوطن وصولًا إلى البيت المركزي في الصيفي. منذ وفاة المؤسّس الرئيس بيار الجميّل عام 1984 لم تستطع العائلة وضع يدها على قيادة الحزب في الثمانينيّات بفضل الانتفاضات العسكريّة، وفي التسعينيّات بفضل الانتفاضات الفكريّة وتوق المسيحيّين آنذاك إلى مساحات ديمقراطيّة يتصارعون فيها، فالمساحة الوطنية كانت محكومة بوجود سوري حدّ من انفلات الحريّات السياسيّة.
تعاقب أربعة رؤساء لحزب «الكتائب»، قبل استلام الجميليّين، لتعدّل في أواخر التسعينيّات المادّة التي تتيح التّجديد للرّئيس مدى الحياة. وإثر عودة العائلة إلى الإمساك بالكتائب عام 2005، أعاد الجميليّون حقّ ورثتهم بالبقاء مدى الحياة بتعديل المادّة مجدّدًا. فسامي الجميّل لن يعيد الأخطاء التاريخيّة السّابقة بالسّماح للانتفاضات على أنواعها بسحب البساط من تحته، فالرّئاسة أصبحت جميليّة مدى الحياة، وهذا تدبير يؤمّن الاستحواذ على الأملاك مدى الحياة أيضًا. لكن هذه المادّة لا تكفي لحماية الإرث، فثمّة إجراءات أخرى ينبغي القيام بها. يسأل الكتائبيّون بعضهم دومًا لماذا استُبعد المفكّرون والمحلّلون وأصحاب العلاقات عن القيادة الحاليّة؟ قلّة منهم يدركون حقيقة التّدبير الثاني، فوجود أدمغة بين جدران الصّيفي قد يفسح المجال مجدّدًا لعواصف ذهنيّة تؤدّي إلى استعادة تلك الحالة التي سادت في التّسعينيّات، وتمهّد الطريق لانتفاضاتٍ فكريّة تهزّ عرش سامي الجميّل. حتى أنّ هناك قاعدةً سياسية اليوم داخل الأحزاب تقول إنّ الرئيس الناجح لا يحيط نفسه بالأذكياء، بل بمن يملكون الولاء لشخصه فقط لا غير.
فسامي ليس بشير ولا بيار، هما مؤسّسان، الأوّل لـ«القوّات» والثّاني لـ«الكتائب». يجمع بين الاثنين الثّقة بالنّفس والتّوق إلى التّقدّم والتّوسّع. لم تكن العقارات والأموال تدخل في لعبة السّلطة الحزبيّة، آنذاك كانت التّضحيات تصل إلى حدّ الشّهادة وبذل الدّماء. ويروي مؤرّخو «الكتائب»، أنّ بيار الجميّل وبشير الجميّل إحتاطا بكبار المفكّرين والمخضرمين في شتّى المجالات، على عكس سامي الذّي لم يفعل ذلك.
لم يكن بشير الجميّل يذكّر اللّبنانيين في خطاباته أنّه مميّز ولا يساوم، ووحده الذي استشرف الحدث وعرف إلى أين سيذهب البلد. بينما لا ينكفئ سامي عن تكرار عبارات مماثلة، وكأنّه في امتحانٍ لا ينتهي منذ دخوله وإمساكه بأمر «الكتائب» عام 2007 بعد استشهاد أخيه. بشير كان يفعل، ينفّذ وينتج، سامي يتكلّم ويتوعّد ويهدّد. قد نظلم الأخير إذا ما قارنّاه بعمّه، فبشير كانت ظروفه مختلفة في حزب ممسك بتفاصيل الحياة السياسيّة في المناطق الشرقيّة، بشير لم يرث «كتائب» قويّة، بل عاش «الكتائب» في مراحلها القويّة ليضيف عليها قوّة إضافيّة عند وصوله إلى رئاسة الجمهوريّة، وينقلها من الصّيفي إلى بعبدا، من بكفيّا إلى كل لبنان. أمّا سامي فورث «كتائب» برلمانيّة في زحلة وعاليه والبترون والمتن والأشرفيّة وأقاليم على ربوع الوطن، لينتهي بها في كسروان والمتن والأشرفيّة وأقاليم مقفلة في ربوع الوطن، لينقل الحزب من حزب في خدمة لبنان إلى حزب في خدمة العائلة.
كتائب السبعينيّات والثمانينيّات كانت تجسّد مدرسة الواقعيّة المتمحورة حول هدف استراتيجي وهو حماية الوجود المسيحي في لبنان.
«الكتائب» عملت في خدمة قضيّة مركزيّة أخطأت وأصابت لأجلها، وكتائب سامي جميّل تجسّد نقيض الواقعيّة السياسيّة ولا هدف استراتيجي لها إلّا تلميع صورة رئيسها والإيحاء بأنّه فتى المواهب المميّز بين الكتائبيّين، ويقتضي تغيير مكاتبهم السياسيّة كلّ أربع سنوات لمواكبة نابغة العصر واللّحاق به وبأفكاره الخلّابة. صورة كاريكاتوريّة لواقع العمل الحزبي في «الكتائب»، إنّها أزمة هويّة سياسيّة وفكريّة من فدراليّة سامي إلى لا مركزيّته ثمّ ثورته وبعدها عودته إلى الكنف القوّاتي.
نقطة إضافية أساسية تتجسّد حين نقارن الأداء الحزبي للرئيس أمين الجميّل بنجله. فالأول أصرّ بعد المصالحة على الحفاظ على رموز وشخصيات مقرّبة من ابنه بيار بعد استشهاده، كما أدخل حصّةً وازنة للسيدة صولانج زوجة بشير، بالإضافة لطاقم سياسي عايش مرحلة سعادة وبقرادوني. بعد دخول سامي لم يرَ الكتائبيون أيًا من هؤلاء.
منذ عهد فؤاد شهاب حتى 14 شباط 2005 كان حزب «الكتائب» حزب الخدمات، وكان التفاعل الشعبي مقبولًا نسبةً للمرحلة والنفوذ والوصاية. بقيت «الكتائب» تسيّر شؤون الكتائبيين وحاجاتهم اليومية متحالفةً مع الدولة العميقة أيًا كان راعيها. اليوم، لا وجود ولا تسيير للحاجات ولا خدمات ولا دور. يصح بسامي الجميّل القول إنّه أنجز الإنجاز الأهم للأحزاب المسيحية وكل أخصام «الكتائب»، حين حوّل حزب الأدوار منذ تأسيسه، إلى حزبٍ بلا دور.
نجح سامي الجميّل بإدخال أزمته الشخصيّة إلى حزب عريق يبكي حرسه القديم كلّ يوم ألف مرّة، ويلعنون لحظة إطلاق النّار على حلمهم الذي سقط في منطقة الجديدة عام 2006.