IMLebanon

| سامي الجميل مدخلاً إلى أزمة المسيحيين

كلام في السياسة

ليس بسيطاً مشهد وصول سامي الجميل إلى رئاسة حزب الكتائب اللبنانية. إذ يمكن للتدقيق في الحدث ولتشريح أبعاده ودلالاته، أن يضيئا على الكثير من تعقيدات المأزق اللبناني في مستواه الداخلي، وعلى الأكثر من أزمة المسيحيين في مقاربتهم لهذا المأزق. صحيح أولاً أن الشاب والنائب ورئيس الحزب الجديد، قد أمضى نحو نصف حياته الفتية في محاولة استحقاق مركزه. فهو ارتقى مناضلاً طلابياً، رغم كل الشائعات التي تطاول مرحلته تلك.

ثم تحول ثائراً متفلتاً من أي هرمية أو هيكلية، مع قدر كبير من الرومانسية الثورية الملازمة لتلك الحقبة الفكرية من عمر أي إنسان. قبل أن تردّه المأساة قسراً إلى مصيره العائلي. وذلك في لحظة حبلى بكل التطورات والتقلبات وغموض الرؤى والأفكار والمشاريع. وهو ما انعكس عليه في الفترة الأخيرة، ضبابية أخفاها بالصمت… لكن رغم ذلك كله، يظل من التجنّي وصف هذا الشاب، بأنه مجرد وريث آخر.

غير أن هذا لن يكفي طبعاً، لتجنيب الجميّل الجديد من وصف البعض له بأنه الجيل الثالث من البيوتات الحزبو – عائلية المعاصرة. ربما لمجرد المصادفة مع نماذج أخرى متزامنة، في بيوتات جنبلاط أو معوض أو شمعون أو فرنجيه أو إده أو غيرها. أو ربما لأن في عمق هذا الانتقال الانتخابي، فعلاً، شيئاً من الهرمية العائلية. غير أن ما يهم في هذا المجال، ليس الفصل في ما إذا كان وصول سامي الجميل وراثة أو استحقاقاً. بقدر ما تلفت دلالات هذا الحدث في البيئة السياسية المسيحية تحديداً. لأنها البيئة الوحيدة التي لا تزال خارج الاصطفافات المطلقة، والأكبر من لبنان. ففي البيئات الأخرى، لم تعد ثمة أحزاب ولا عائلات ولا بيوتات. بل مجرد جماعات تاريخية، هي في الواقع أمم تامة، تتخذ أشكالاً مختلفة: شكل حزبين عند الشيعية السياسية، أو عائلة ــــ حزب عند السنية السياسية، أو حزب ــــ عائلة لدى الدرزية السياسية. لذلك تبدو انعكاسات «صعود» سامي، أكثر إسقاطاً على الواقع السياسي المسيحي دون سواه. وفي هذا السياق تبرز السمات التالية:

أولاً، أن المسيحية السياسية، على تعدديتها في المواقف والتموضعات والاتجاهات، لا تزال تقدم تعددية أكثر بنيوية، بين تشكّلات أقرب إلى الأحزاب، وأخرى أقرب إلى البيوتات.

ثانياً، وفي مفارقة غريبة، تبدو التشكلات المسيحية العائلية أكثر قدرة على الاستمرار، وعلى تجديد قياداتها، و»تنخيب» بناها، من التشكلات الحزبية. المفارقة هنا أن الأحزاب تبدو مأزومة، فيما العائليات بخير أفضل، ولو نسبياً. العائلات تحقق وراثتها. فيما التشكيلات الحزبية في معاناة حالت، حتى اللحظة، دون إنجازها أي تناوب سلمي على سلطتها، أو أي إقرار آلية لذلك، تكون قابلة للتطبيق والتنفيذ والتجربة. وإذا كانت أمثلة البيوتات كثيرة وواضحة، فإن أمثلة التشكلات المفترضة حزبية يمكن اختصارها باثنين: التيار الوطني الحر، والقوات اللبنانية. والاثنان في مرحلة مخاض طال، بحثاً عن آلية تداول سلطة بشكل طبيعي ومتين. وهو ما تحققه العائلات بلا أي صعوبات ولا أي تعسير.

ثالثاً، وفي مفارقة مقابلة، يبدو جلياً أيضاً أن المسيحيين يميلون أكثر إلى هذه التشكلات الحزبية، منهم إلى تلك التركيبات العائلية. بدليل أن «حزبي» التيار والقوات يمثلان أكبر فريقين مسيحيين، بفارق كبير عن الثالث، وبمعزل عن احتساب الفارق بينهما أيضاً. فيما البيوتات تضمر وتتضاءل، وتكاد تتحول ــــ على استمراريتها ــــ زعامات مناطقية. مع بعض استثناءات قليلة أو خروقات طفيفة خارج إطارها المناطقي التقليدي. علماً أن هذه الملاحظة الموضوعية، مطروحة بمعزل عن أسباب شعبية كل طرف أو ظروف ارتباطها بالطروحات السياسية.

رابعاً، يلاحظ، أيضاً، أن التشكلات المسيحية الحزبية هي من يحمل طروحات أكثر جذرية. فيما التشكلات العائلية تميل أكثر نحو الخطاب المحافظ. رغم كل النتوءات الموسمية الطارئة على هذه القاعدة. فميشال عون وسمير جعجع مثلاً، الآتيان من خارج البيوتات، كانا السياسيين المسيحيين الوحيدين اللذين حملا ــــ وإن في مراحل مختلفة أو بوتيرة متقطعة ومتقلبة ــــ طروحات «ثورية». فيما القوى العائلية ظلت على مدى أجيالها، ضمن هامش خطابي محدود. وقد يكون سامي الجميل نفسه أفضل دليل على ذلك. فهو يوم خرج من عائليته وعليها، ذهب إلى طرح ثوري. ولما أعادته لعنة الاستشهاد إليها، عاد إلى هوامش خطابها…

هكذا، إذا ما جُمعت تلك السمات وربطت بمنطق تحليلي ومن ثم تركيبي واحد، يظهر لنا عمق أزمة الاجتماع السياسي المسيحي في لبنان. إذ يظهر مثلاً أن المسيحيين اللبنانيين عالقون في خياراتهم واصطفافاتهم السياسية، بين من يحمل مشروعهم ولا يقدر ــــ أو لا يسمح له، أو لا مدى زمنياً لديه ــــ لتحقيقه. وبين من يملك ذلك المدى، لكنه لا يمثل وجدانهم الأكثري، أو لا يميلون إليه ككتلة شعبية على الأقل. مأزق قد يبدو شكلياً أو تنظيرياً. لكنه في عمقه واقع ملموس. وهو لا يحتمل نظرياً إلا ثلاثة مخارج: إما أن تنجح الأحزاب المسيحية في مأسساتها القابلة للعيش بمشاريعها السياسية الحقيقية. وإما أن تتحول العائلات إلى طرح مشاريع قادرة على استيعاب الجمهور المسيحي على مساحة الوطن. وإما أن يبدل المسيحيون أفكارهم ومشاريعهم، بكل بساطة!