لم يترك سامي الجميل مجالاً للتشكيك بأنّه مفتون بمشهد المدّ الشعبي الذي أفرزه المجتمع المدني بعناوينه «الثورية».
هو مقتنع بأنّ الأحزاب مهما كانت هيكلياتها حديدية وأسسها متينة، فهي الى زوال. يلفظها الناس ويرجمونها بحجارة «عدم التجانس» كونها لا تحاكي أوجاعهم وهمومهم ولا تجاري تطلعاتهم.
تزداد القناعة في ذهن الشاب بأنّ التغيير لا يمكن أن يكون ببعض الوجوه التي تطلّ أمام الرأي العام. ثمة حاجة ماسة لإحداث النقلة من العمق، في الأداء والنهج والممارسة.
يجزم عارفوه أنّه مهما كيلت الاتهامات بحقه وبأنّه يبيع الجمهور كلاماً هو ليس أكثر من مزايدات لا تقدم أو تؤخر في موقعه السياسي، سيصابون بالخيبة والصدمة، لأنّ النائب المتني سيكرس التغيير من أساساته!
يعتبرون أنّ خطوة الانسحاب من الحكومة ليست بسيطة، حتى لو رآها البعض بهذه السهولة. فالحزب قرر التخلي عن ثلاثة مقاعد، ولو أنها انتهت بمقعد واحد. لكنه فعلها في أصعب الظروف. بمعنى أنه تخلى عن الخدمات وعن حصّته الحكومية في وقت قد يتمّ فيه «تحنيط» هذه الحكومة لأشهر مديدة قبل أن تحلّ السرّة ويخرج الرئيس العتيد.
وفق توصيفهم، فإنّ رئيس الحزب يرفض الامتثال لقواعد الواقعية السياسية التي تأخذ منه من دون أن تعطيه، ولذا انتظروا منه مزيداً من الخطوات الانقلابية غير المتوقعة بنظرهم، والتي ستضاعف حضوره وتزيد من رصيده الشعبي.
هؤلاء يتحدثون عن سيناريوهات غير تقليدية لن تجمعه بطبيعة الحال بوجوه لا تشبه المزاج العام الذي عبّر عنه الحراك المدني. لا يجزمون أنّه سيفعلها وسيتخلى عن حلفاء السنوات العشر الماضية، لكنهم يؤكدون أنّه يفكر بكل الاحتمالات. قد يكون عقله مع اللوائح الكلاسيكية، ولكن قلبه بلا شك مع الـ «نيو لوائح».
هكذا، يُفتح باب النقاش على طبيعة الخطاب السياسي.
وفق المدافعين عن سامي الجميل، فإنّ الشاب يتحضّر نفسياً كما يُحضّر قواعده للانسحاب من كامل الطبقة السياسية. لم يحسبها جيداً على ورقة الانتخابات ومسطرتها، لكنه يعرف جيداً أنّ خياراً انقلابياً من هذا النوع قد يكلفه الكثير. وهو يقوم بالحسبة. يقولون إنّ المحيطين به من مكتب سياسي ومستشارين يحاولون لجم اندفاعته حفاظاً على ما تبقى من حلفاء، أما هو فيفضّل قلب الطاولة رأساً على عقب.
يكفي بنظرهم أنه لا يميّز في صرخته الناقمة بين صديق وخصم كي يبنى على الشيء مقتضاه. ذهب في اعتراضه على «سوكلين» الى حدّ التقدم بشكوى قضائية، والى التصويب بالمباشر على مجلس الإنماء والإعمار كي لا يتهم بالتغطية على سعد الحريري وأذرع مصالحه المالية، وكي يثبت للرأي العام أنه صادق في مواقفه.
كل هذه الإثباتات النظرية لا تحجب النقمة التي تتكدس لدى بعض الكتائبيين جراء أداء رئيسهم. يتحدثون بصراحة عن تراجع الدور والحضور وعن بُهتان الخطاب السياسي. صار الحزب بنظرهم أشبه بجمعية خيرية تركت مملكة السياسة للزهد البيئي.
يعتبرون أنّ ما يقوم به الجميل ما هو إلا رقص استعراضي على حلبة المزايدات، يفتقد قراءة معمّقة للوضع الداخلي وخطة منظّمة قد تصل به الى برّ النجاح. وإلا فكيف يُفسّر قرار الخروج من حكومة مطلوبة ومدعومة دولياً؟
وتبقى هذه الخطوة بنظرهم أقل ضرراً من الحملة التي يشنها الحزب على التفاهم المسيحي – المسيحي على قاعدة النكايات ليس أكثر مع أنّ الرأي العام المسيحي مؤيّد لهذا التفاهم ومقتنع بجدواه. يقولون إنّ هناك من حاول أكثر من مرة جمع الرئيس أمين الجميل بالعماد ميشال عون كي ينسجا تفاهماً ثنائياً، فكان الأخير يتهرب خشية إفلات يدي سعد الحريري لا أكثر… الى أن فعلها سمير جعجع.
هكذا يجزمون أنّ شيخَي بكفيا ليسا بوارد التخلي عن الحليف الأزرق، وما السهام التي يوجهها سامي الى مجلس الإنماء والإعمار أو الى سوكلين إلا تذاكي مفضوح على الناس، وتمييز بين الحريري و «دكاكينه».
وعلى هذا المنوال، يعتبرون أنّ إقفال مطمر برج حمود لم يكن مقروناً بخطة بديلة ولهذا بدت إنجازات الاعتصام معدومة. فلماذا مثلاً لم تكن البداية عبر إقناع البلديات المحسوبة على الحزب بالمباشرة بأعمال الفرز وإقامة معامل لها؟ لماذا لم يعمم نموذج بكفيا قبل نصب خيمة الاعتراض؟ أين هم الحزبيون من الاعتصام؟ أين هم حملة البطاقات الحزبية المفترض أنهم بالآلاف؟ أين مصلحة الطلاب وجماهيرها؟ أين أقسام المتن الـ83؟
وكما في البيئة كذلك في السياسة. يقول هؤلاء إنّ أداء رئيس الحزب يصيب الحزبيين بالصداع: هل لا يزال ضمن محور 14 آذار أم انسحب منه؟ هل هو مناهض لتفاهم المسيحيين أم مؤيد للمبدأ؟ هل هو ضد آل سكاف أم معهم؟
بالنسبة اليهم، انتظروا خطاباً سياسياً متيناً صارماً يشبه مبادئ الحزب، وإذ بهذا الحزب يحصر اهتماماته بالمتن ونفاياته. كان يفترض بنظرهم أن تُعبأ القواعد من أجل المسألة الرئاسية فتنصب الخيمة أمام القصر لا أمام المكب. أو من أجل تفاهم مسيحي حول قانون الانتخابات. وها هو جبران باسيل يختار أقصى اليمين لخطابه فيما «حزب الكتائب» يتقوقع في معامل فرز النفايات.
انتظروا شراكة واذا بالتفرّد يسيّر الحزب، فيما القيادات العتيقة التي تمثل الوجدان الكتائبي مركونة على الرفّ لا توقظ إلا في حفلات التكريم. الكتائب يفتقد خميرته. صحيح أنّه تنظيم رئاسي التكوين ولكن حتى في زمن بيار الجدّ كان ثمة فريق عمل يسدي النصائح وله دوره.
أما اليوم، فإنّ القيادات الوسطية مغيّبة كلياً. يقول هؤلاء إنّ سامي مسكون بهاجس النفوذ والخشية من أن يقضم أي من الكتائبيين من طبقه الحزبي. يقولونها بـ «العربي المشبرح»: لا يمكن للجميل الابن أن يكون على نموذج سمير جعجع، الآمر الوحيد. النموذجان مختلفان كلياً، في الحزب والشخص وظروف النشأة. وأن يكون «الكتائب» حزباً عصرياً لا يعني أبداً تعريته… إلا إذا كان سامي بصدد تكوين حزب جديد على قياسه.