في الساحة تبدو «الكتائب» وحيدة. بعضُهم ذهب في اتجاه، وبعضُهم في اتجاه آخر، لكنّ الحزب بقيَ في مكانه. يتذكَّر البعض عنوان رواية الياس الديري، ويبتسم ممازحاً: هل «تبقى وحيداً وتندم»؟ لكن الحزب يجزم: «في النهاية، سيكتشفون أنّ موقفنا هو الأكثر واقعية وعقلانية، وأنّ ما يجري اليوم هو استسلام للابتزاز!»
يُجاهر رئيس الحزب الشاب، النائب سامي الجميّل: «نعم، الكتائب ماشية بعكس السير. والبعض يطلب منّا أن نمشي مع السير، أي في الاتجاه الذي سلكه آخرون، ولكنّنا لن نفعل إذا لم نقتنع، وإذا لم نَجد في ذلك مصلحة للبلد».
ويضيف: «فليعطونا الأجوبة التي ننتظرها، ردّاً على الأسئلة التي طرحتها في لقاء بكفيا الأخير. إنها أسئلة بسيطة. ولكن، لم نحصل حتى اليوم على أجوبة مقْنِعة. وكل ما يجري هو أنّ أفرقاء في «14 آذار» استسلموا للابتزاز الذي يُمارسه «حزب الله» منذ عشرة أعوام»!
ومثالاً على ذلك، يقول الجميّل، فلنأخذ البنود العشرة الواردة في «ورقة معراب» بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع. فقد طرحْنا سؤالاً على الطرفين هو: عندما تتحدث الورقة عن رفض انتقال المسلحين عبر الحدود بين لبنان وسوريا، هل «حزب الله» مقصود أيضاً أم لا؟
نحن نعرف، يضيف، أنّ عون وجعجع يختلفان على هذه النقطة. وقد جاءنا ما يُشبه الجواب من عون، ومفاده أنّ «حزب الله» غير معنيّ بهذا البند. ولكن، حتى الآن، لم يَرِدْنا موقف من جعجع حول هذه المسألة المهمّة.
يقول: نحن اليوم في صدد فقدان التوازن. فهناك أفرقاء من «14 آذار» أعلنوا دعمهم مرشّحين من «8 آذار». وبقيت الكتائب وحدها متمسّكة بالتوازن في موقع رئاسة الجمهورية، لأنّها مقتنعة بأنّ أخذ لبنان في اتجاه أيّ طرف في صراع المحاور سيكون مُكلفاً للجميع. ويضيف: إذا قرَّر مرشحو «8 آذار» أن يكونوا توافقيّين ويتخلّوا عن تموضعهم السياسي ومشروع «8 آذار» ويتوازنوا، فإننا مستعدون لدعم تسميتهم للرئاسة.
وفي عبارة أخرى، ليست لنا مشكلة في دعم مرشح في «8 آذار». أما إذا بقي المرشحون ملتزمين مشروع هذا الفريق، فلا مجال لحصول أيّ منهم على دعم حزب الكتائب. وفي استنتاجه أنّ أياً من مرشّحَي «8 آذار» لم يُظهر حتى اليوم نيّة للانتقال إلى منطقة وسطى. ومن هنا، لن يحظى أيّ منهما بدعمنا.
ويشرح الجميّل مجدداً موقف الحزب في الملف الرئاسي: إذا كان رئيس الجمهورية مرتبطاً بالرئيس بشار الأسد وإيران و»حزب الله» فإنه سيعرِّض لبنان للخطر، وإذا كان مرتبطاً بالمعارضة السورية فسيعرّضه أيضاً للخطر. ولذلك يجب أن يكون موقف رئيس الجمهورية محايداً في الصراع الإقليمي وتوافقياً في الداخل، أي أن يكون الرئيس جديراً بمحاورة اللبنانيين جميعاً، وأن يتمسّك بالدستور وتطبيقه.
والحياد الإقليمي، في مفهوم الجميّل، لا يشمل المسائل التي تعني لبنان مباشرة، كالموقف من إسرائيل عندما تحتلّ جزءاً من أرضه، لكنه يعني الحياد إزاء الصراع المحوري الدائر في المنطقة، ومخالفة هذه القاعدة تهدّد لبنان لأنّ لها انعكاسات داخلية خطرة.
ويسأل: إذا اتخذ رئيس الجمهورية العتيد موقفاً منحازاً إلى جانب إيران في صراعها الإقليمي، فستكون لذلك ارتدادات داخلية، إذ سيشعر السنّة بالاستفزاز، وسيزداد التطرُّف لدى بعض فئاتهم. وعلى العكس، إذا اتخذ رئيس الجمهورية نهجاً معادياً لطهران، فسيكون الأمر استفزازياً للشيعة. وسيكون آمناً للبنان انتخاب الرئيس الحيادي الذي يشكل ضمانة للبنان بكل فئاته.
ويستغرب الجميّل كيف يتمسَّك بعض «14 آذار» بتسمية مرشّح للرئاسة من «8 آذار»، ويقبلون بمعادلة «رئيس للجمهورية من «8 آذار» ورئيس للحكومة من «14 آذار». ويسأل: أليس رئيس المجلس النيابي من «8 آذار» أيضاً؟
وتالياً، إذا كان رئيس الجمهورية ورئيس المجلس من «8 آذار»، فإنّ رئيس الحكومة الموعود سيكون الحلقة الضعيفة. وهناك ثلاث طرق دستورية لإسقاط الحكومة ورئيسها، فيما ليست هناك قدرة على إسقاط رئيس الجمهورية أو رئيس المجلس، إلّا بصعوبة فائقة.
ولذلك، إذا تمَّ تركيب الصيغة التي يُراد اليوم تمريرها، وجرى استضعاف رئيس الحكومة بما يمثِّله ميثاقياً، فسيشعر السنَّة بالاستفزاز، وهذا ليس في مصلحة استقرار البلد. ومن هنا، يقتضي منطق التوازن في السلطة أن يكون رئيس الجمهورية توافقياً بين رئيسي الحكومة ومجلس النواب.
إذاً، هل تعتقد أنّ «14 آذار» انتهت؟ يُجيب الجميّل: لم تنتهِ، ولكنّ التحالفات في «14 و8» كلها تفجَّرت، بمعنى تفرُّد كل طرف في التكتيك، ونشأت في داخل كل محور أزمات ثقة عميقة. إلّا أنّ الثوابت لم تتغيَّر إجمالاً لدى المحورَين. وعلى سبيل المثال، لم تتغيَّر المواقف في مسألة سلاح «حزب الله»، لا هنا ولا هناك.
وسط هذه الأجواء، يُعبِّر الجميّل عن استيائه ممّا يعتبره «حملة التشويه الإعلامي لصورة الكتائب»، من خلال الإيحاء بأنّ هناك شيئاً ما يطبخه الحزب تحت الطاولة مع «حزب الله». فهذه الحملة يُراد منها الردّ على موقفها في الملف الرئاسي. ويقول: لا شيء عندنا نخبّئه. كل أوراقنا مكشوفة. وعندما يكون هناك شيء جدّي يجدر التحدث عنه في العلاقة مع «حزب الله» فسنعلنه ويعرف به الجميع.
أما اللقاء الذي جمع كوادر من الحزبين أخيراً، في منزل الشيخ نعيم قاسم، فكان مجرّد زيارة هدفها إنهاء ملف قضائي يعود إلى سنوات خَلت، عندما رفع «حزب الله» دعوى على الكتائب بسبب نشر موقعها الإلكتروني مادة إعلامية اعتبر «الحزب» أنها تَمسّ به. وقد شارك في اللقاء وكيلا الكتائب في هذه الدعوى، وفعلاً كان يجدر إنهاء هذا الملف. أمّا إعطاء الزيارة أبعاداً سياسية فليس في محلِّه.
لكنّ الجميّل يكشف أنّ التواصل مستمر بين الكتائب و«حزب الله» منذ قرابة أربع سنوات، في شكل لقاءات دورية كل شهر أو شهرين. ولم تكن هناك قطيعة بين الطرفين طوال هذه الفترة، ليُعطى لقاء اليوم حجماً إستثنائياً.
ولكن، في رأيه، لا يبدو «حزب الله» مستعداً حتى الآن للانتقال إلى مرحلة جديدة. ونحن ما زلنا ننتظر منه أن يقتنع بلَبننة الحياة السياسية، وأن تتوقف سياسة النكايات والمراهنة على تحقيق الانتصارات، ونجلس معاً إلى طاولة واحدة ونتحاور بهدوء.
ويضيف: بالنسبة إلينا، «حزب الله» هو مكوّن لبناني أساسي، كما هي المكوّنات الأخرى السنّية والدرزية وسواها. ونحن نحتاج لأن نتفاهم جميعاً، وفق أسُس جديدة. ولا يمكن للبنان أن يستمرّ بهذه الإدارة الخاطئة لشؤونه، والتي ستعيده إلى الوراء وتُدمّره.
ومن الضروري أن نجلس معاً لنتفق على معالجة المشكلة البنيوية، وعلى أسُس لإنقاذ لبنان من الخلل في النظام السياسي أو الطائفي، الذي يقوده إلى مزيد من الفساد وانعدام الثقة. ونحن مستعدون لمناقشة «حزب الله» في هذه المسائل، لكنه لا يبدو مستعداً لتغيير نمط التعاطي والدخول في هذه المسائل وإحداث خرقٍ فيها.
ولذلك، لا حوار مع «الحزب» حتى اليوم. ولكن، في اللحظة التي يُظهِر فيها نيَّة للمناقشة، سنكون جاهزين ومعالجة اختلافاتنا معه، كالنظرة إلى السيادة وصراعات المنطقة وسوى ذلك.
وماذا عن جلسة 8 شباط؟ يسأل الجميّل: من سينزل إلى الجلسة؟ «معقول إنو المرشَّحَين ما يحضَرو، والمرشِّحين يحضرو؟!» الأمر يشبه حفلة زفاف يحضر فيها المدعوون، ولكن يغيب العروسان!
والذين وقَّعوا ورقة تنصّ على احترام الدستور عليهم الحضور إلى المجلس لأداء هذا الواجب الدستوري. وإذا خالفوا الورقة بعدم حضورهم، فستكون أوّل إشارة منهم إلى الإخلال بالورقة، ببنودها كافة. لذلك، ستكون جلسة 8 شباط امتحاناً لورقة البنود العشرة، والفريق الذي يخلّ بأحد البنود لماذا يلتزم البنود الأخرى؟
ويستغرب الجميّل أن يقول السيد حسن نصرالله إننا لن نحضر جلسة الانتخاب إذا لم يحصل التوافق مسبقاً، ويسأل: هل الديموقراطية تقضي بالضمان المسبَق لفوز مرشح معيّن من داخل فريق معيّن؟ هذا موقف لاديموقراطي. أما من جهتنا، فإذا انعقدت الجلسة وتمّ فيها انتخاب رئيس للجمهورية، سنقبل النتيجة أيّاً كانت، لأننا ملتزمون الممارسة الديموقراطية.
في أي حال، التواصل لم ينقطع مع «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، يقول الجميّل. ويضيف: ربما يقولون إنّ الرئيس القوي هو المطلوب. ولكن حذارِ أن يؤدي هذا الرئيس إلى تدمير البلد. ومن الضروري تحديد مواصفات الرئيس القوي بدقّة.
وللتذكير، إنّ الرئيس سليمان فرنجية لم يكن زعيماً قوياً عندما وصل إلى رئاسة الجمهورية، لكنّه صار قوياً عندما وقف الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل إلى جانبه.
في الخلاصة، يبدو تعبير النائب سامي الجميّل عن سير الكتائب «بعكس السير» في محلِّه. فهو عاتِبٌ على الحلفاء في «14 آذار» لاختيارهم مرشحَي «8 آذار» من دون التخلّي عن مشاريع «8 آذار»، ومستاء من عدم تفاهم القوى المسيحية على رئيس توافقي له حظوظ الوصول إلى بعبدا بما يُنهي الشغور في الموقع المسيحي الأول، ومستمر في انتقاد «حزب الله» بسبب ربطه لبنان بأزمات المنطقة.
وهكذا، يبدو السؤال المطروح في الصيفي كما في سواها، حول مصير لبنان، من نوع السؤال الجنبلاطي الشهير: إلى أين؟