ليس تفصيلاً أن يحتفظ سمير جعجع بصورة القائد المحبوب لدى جيل من شباب رافقوه في حروبه الكثيرة. قبل ذلك، كان جعجع، بالنسبة إلى هؤلاء، يشبه غالبية المنضوين في أكبر حزب مسيحي في لبنان. وهو حظي بمودّة كثيرين، حتى في «عزّ» بأس بشير الجميل. كانت قوة جعجع، بالنسبة إليهم، أنه يمثّل الانتفاضة الاجتماعية على الواقع القيادي للمسيحيين.
انخراطه في حزب الكتائب، لم يسقط من رأسه طموحه بتغيير يلبّي تطلّعات قاعدة موالية، أتت بغالبيتها من بيوت المسيحيين الفقراء في مناطق الأطراف. وعندما تصدّى لدور قيادي في منطقة الشمال، لم يكن واحداً ممن يرسلهم المركز لتسلّم القيادة في المحافظات. بل كان واحداً من أبناء الأرض نفسها.
في كل مرة تستعاد فيها حكاية بناء نفوذه في القوات اللبنانية، يظهر جلياً أن القوات مثّلت، بالنسبة إليه، منصّة الانقلاب الحقيقي على حزب العائلة. وقد نجح، بمساعدة كثيرين، في تحويلها من ذراع عسكرية لحزب الكتائب، إلى وعاء سياسي وتنظيمي للمجموعة العسكرية التي كانت تمثّل، اجتماعياً، قاعدة الانتفاضة على العائلة، ولو أنها احتفظت بما تراه صالحاً في العلاقة مع الله والوطن.
قوة جعجع بالنسبة إلى الغالبية التي انضوت في الجهاز العسكري، أنه يشبه الشباب الآتين من عائلات متوسطة وفقيرة. ويحلو لمريديه، دائماً، أن يرووا عن الشاب الذي وُلد في عين الرمانة، الضاحية التي يعيش فيها فقراء ينتمون سياسياً إلى حزب العائلات الغنية في الأشرفية، وعن الآتي من عائلة متوسّطة الحال، إذ كان والده معاوناً في الفرقة الموسيقية في الجيش اللبناني، واهتمّت والدته بأمور المنزل وحفظ التزام أولادها، كمعظم العائلات المارونية، بالطقوس الدينية، من الصلاة صباحاً ومساءً إلى حضور العائلة مجتمعة قداس يوم الأحد. تابع دروسه في مدارس عادية، قبل أن يحصل من «لجنة جبران خليل جبران» على منحة لدراسة الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، إلى أن انغمس في الحرب الأهلية، حاملاً مبضعاً مغايراً لمبضع الجرّاحين، مسؤولاً عسكرياً في بشري أولاً، ثم عن منطقة الشمال.
أمضى عشر سنوات في حروب دموية متنقّلة، حملته إلى مناطق كثيرة في لبنان، قبل أن تعيده مهزوماً، إلى رحلة طويلة من العزلة، بدأها في منزل كان أقرب إلى مركز عسكري في غدراس، ثم في زنزانة تحت الأرض، قبل أن يعود إلى الضوء مختفياً في ثكنة على هيئة منزل في معراب.
لكن لجعجع قصته الشخصية التي أثّرت في بناء المؤسسة الحزبية على ذوقه السياسي والاجتماعي والتنظيمي. وهي ترتبط بتغييرات كبيرة طرأت على حياته. لم يكن السجن الطويل هو الحاكم الأساسي فيها، بل سعيه الدؤوب نحو رفع مستوى من يمثّل إلى طبقة أعلى اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، مع رغبة دائمة، بانتزاع احترام – لا خوف – الآخرين، ومنحه شرعية في النظام السياسي كبقية أمراء الحرب والمال في لبنان… وقبل هذه أو تلك، لم يكن جعجع يحسن إدارة الانقلاب الأهم في حياته، حيث كان ينظر بعين الريبة إلى إدارة الكنيسة في لبنان، باعتبارها أداة في أيدي العائلات التي تأكل حقوق الفقراء، ولم ينجح، سوى في جذب بعض رجال الدين الذين باركوا بطشه في سنوات الحرب.
لكنّ نقطة التحول التي لا يبدو أنها تروق لغالبية شباب القوات وشاباتها، هي المتعلّقة بما بات عليه منذ تزوّج ستريدا طوق. عندما كان رفاقه يساعدون على ترتيب علاقته بها، كان الآخرون يسألون عن سر إعجاب «الثائر» بابنة الإقطاع التي وُلدت في برج عاجي ولم تنزع عنها يوماً ثوب سيدة القصر، فيما صار على القائد المقاتل التدرّب على ترتيب ربطة عنقه معظم الوقت.
اللحظة الشخصية لسمير جعجع لا تمثّل انتقاصاً من قناعاته، ولا تمثّل كذلك إدانة لزوجته الآتية من بيئة اجتماعية مختلفة. لكنّها لحظة لا تتطابق مع البناء الذي أراده جعجع لمؤسسة ترث حزب العائلة، وتقدر على مواجهة العائلات وأحزابها في شمال وجبل لبنان أيضاً. ولم ينتبه جعجع، أو لم يكن يريد أن ينتبه، أنه عندما كان يحظى بترحيب حارّ لدى مشايخ آل الضاهر والشويري، إنما كان يحظى بإعجاب من وجدوا فيه سلاحاً ناجعاً في مواجهة عائلات زغرتا وقواها، من آل فرنجية ومعوض، إلى غيرهم من الخصوم الذين يريدون السيطرة على كل شيء. حتى عائلة طوق التي ناسبته، كانت لها حجتها المشابهة، والكل يذكر ستريدا وهي تروي، بحرارة، سرّ إعجاب والدها بـ«الحكيم» الذي «دعوس الزغرتاوية».
حتى اليوم، يمكن لفقراء بشري أن يروا سيدة القصر تنظر من خلف زجاج غرفتها العالية، تراقب «القبضاي» الذي يحتل الشارع عند حافة الحديقة. لم يكن جعجع يحتاج إلى دعوة لدخول القصر، لكن، كان عليه إدراك أن الدعوة لا تخصّه وحده، بل تخصّ كل ما يمثّل وكل ما يطمح إليه… وعندما حطّت الحرب أوزارها، اختفى الصبية من الحي، وبقيت سيدة القصر تعيد تنظيم الحديقة وسورها. وفي الصالة الواسعة، جلس الثائر على كرسي كاد يضيق به كلّ الوقت، وفي كل مرة كان يشتاق إلى صحبه، كان هناك من يدعوه إلى التأقلم مع العصر الجديد، حيث حلّت النعمة على كثيرين ممن باتوا بالنسبة إليه أو إلى سيدة القصر، واجهات ضرورية في العمل العام. أما عندما يعود الحديث إلى المؤسسة – القلعة، فإن من يتقدّم الصفوف، هو من يمكنه تحمّل كلفة الدم والعرق والدموع. ومع وقائع صلبة كهذه، لا يمكن التعامل مع البناء الحزبي على أنه امتداد منطقي لما يُفترض أن جعجع انطلق منه، بعدما بدا أنه ارتضى لنفسه أن يصطفّ إلى جانب من سبقوه على كراسي النظام، منتظراً القدر، علّه يحمله، إلى حيث يؤمن بأنّ له حقاً في أن يكون!
من ملف : الثائر… وسيّدة القصر