كان لأمثاله نعمة التمكّن من الحكمة وأصولها. وموهبة التكثيف والاختصار ومؤاخاة عادات فلاسفة الزمان الغابر. ولأمثاله ملكة الوضوح وسبر الأغوار وكَسْرُ أحجية التورية وغبار الغوايات. غدرات الطموحات الغلط، والقراءات المبتورة بنزعات توسُّل الشر بادعاء الخير.
سمير حميد فرنجية الغائب الذي لا يكسره الغياب. والحاضر الذي لا يمحوه عتم الموت. أحد أنقى أنقياء السياسة والثقافة والأخلاق في لبنان. وأحد أبرز روّاد المواطنة العابرة فوق الانقسامات والإنتماءات. وأحد ألمع المُنادين بعقلنة الأداء والطموحات، والتواضع أمام الهموم الوطنية المشتركة، الكبرى والأساسية، وفي الوقت نفسه أحد أشرس المدافعين عن السلم الأهلي والمتصدّين للمتطاولين على ركائزه.
رجل استثنائي بمقاييس كبيرة. مثّل بأدائه توليفة ليس مثلها كثير: صلابة فولاذية لكن بصوت هادئ. ورحابة فكرية لكن بثوابت لا تُمسّ. يخاصم بنبل ويصادق بشرف وإلفة. شجاع على المتنمّرين، ولائق متواضع أمام الضعفاء والضحايا. أتى من اليسار ولم يذهب الى اليمين. وخرج من الطائفية ليلجأ الى الوطن. عافَ «طبقته» ولم يدّعِ الدروشة. وظلّت الأناقة عنوانه الدائم شكلاً ومضموناً. كانت السياسة عنده صنوَ الأخلاق الرفيعة والحميدة حتى في مواجهة الأشرار وإجرامهم وتطاولهم الفظّ والمعيب على آداب النقاش والبيان.
كانت شجاعته تليق بإسمه. إبن عائلة زغرتاويّة كريمة وكبيرة ووطنيّة. وابن مدينة عزيزة وكبيرة ووطنيّة. فيها الأصالة والنخوة والجود خصال مقيمة. وفيها الاعتزاز بالوطن والعيش المشترك والانفتاح، عناوين ثابتة. وفيها إرث رجال كبار تعتزّ بهم وبمسيرتهم، مثلما يعتزّ بهم الشمال كلّه ولبنان برمّته.
عاش في قلب مشروع 14 آذار. وخاض في سنواته الأخيرة، «حرب» ترسيخ قيمها وشعاراتها وأهدافها. لم ينكسر أو يتراجع أو يتراخى برغم ازدياد وطأة المرض عليه، بل ظلّ حتى اللحظة الأخيرة ثابت البيان والإيمان، بأنّ وطننا يستحق سيادته وحريّته واستقلاله واستقراره. وتليق به فرادة الرسالة ورفعة المقام.
إنزوى في أيّامة الأخيرة في زاوية مرضه. وآثر «التسليم» بصمت وهدوء وأناقة معهودة. وعندما كنت أسأل أصدقاءنا المشتركين عنه، كانت هزّة الرأس اختصاراً لضنى الجواب، وأسى الإعلان ومحنة المآل، وبديل غصّة تصاحب أي محاولة للشرح.. إنتهى الشرح وبقيت الغصّة!
سمير بيك فرنجية. من ظلال الأرز الى ظلال الأرز. وداعاً.