مهما قيل في فارس لبنان الراحل سمير حميد فرنجية يبقى قليلاً في حق هذا الرجل الذي قدّم نموذجاً فريداً للإنسان والسياسي والوطني لا على مستوى بلده فحسب بل على مستوى المنطقة، اذ يندر ان تجد في الطبَقات السياسية العربية قامةً مثل قامَتِه تجمع بين الارستقراطية والانتماء الى بيتٍ سياسي عريق وبين التواضع الجمّ والالتصاق بهموم الناس. بين القدومِ من بيئةٍ شكّلت أعمدة النظام القريب من اليمين، وبين قلبِ رجلٍ عاش ومات وهو يخفق يساراً حتى لُقّب بـ «البيك الأحمر». بين العلاقات الدولية التي أَكْسَبَتْه احترام قادة العالم، وبين البساطة في الحضور والتبسُّط في التواصل مع الجميع. بين الخلفية الراقية فكراً وعلماً وثقافةً عميقة وسلوكاً يُماثِل سلوك مدرّبي أفضل ديبلوماسيي العالم، وبين قوّة المنطق وحدّة اللسان والصوت العالي والضرْب على الطاولة حين يحاورُ «ممانعاً» يَخرج على الهواء عن أصول اللياقة والأدب… ووسط ذلك كله، بين جسدٍ أنهكتْه ثلاثة سرطانات على امتدادِ ثلاثين عاماً، وبين عقلٍ يرفض الاستسلام ويعيش حياتَه كأن لا خلل في خلاياه رغم نصائح الأطباء.
وكم هي صعبة مهمة مَن يكتب عنك يا سمير وقد عرَفك عن قُرب وكنتَ مُرْشِده في التحليل والتفسير. وكم من الذكريات تروى عن هذا الحضور الآسر الذي كان يعفينا حتى من مشاعر التقصير او النسيان، حين نتلقى اتصالاً من «البيك» يبدأه بالعتاب العالي والتهديد باستخدام «الخيزرانة» إن كرّرْنا «الجفاء»، ثم يعرض لمشروعه أو وثيقته او بيانه او «إعلانه» ويطلب القراءة والملاحظات ويحدّد لك سقفاً زمنياً… قبل أن ينهي المكالمة بضحكٍ ومحبة قائلاً: «لا أحد مقصّر معي لأنني لا أعطيه فرصة، فإن تأخّر في الاتصال أتصل أنا لأنني أعرف أنه يحبّني، لكن مَشاغله كثيرة».
ما من مناسبة مُفْرِحة لأصحابه إلا ويكون صاحبها ووالد العريس أو العروس، وما من عزاءٍ إلا ويسبق أهل الفقيد الى تلقي التعازي. تعرفه غالبية سائقي سيارات الأجرة وكانت متعته ان يتحادث معهم، وعندما يعود الى مكتبه يدوّن ما سمع ويفتح نقاشاً مع رفاقه حول مزاج الناس وضرورة الرهان على رأيٍ عام مهما غَيَّبَتْه ثياب الميليشيات العسكرية وأبواق الطوائف.
وعن علاقته بالناس، أستأذنك يا سمير في رواية هذه القصة التي يعرفها جيداً رفاقك. ذات يوم في بداية الألفية الثانية، تَوجَّس الحاكم السوري للبنان غازي كنعان (انتحر برصاصات ثلاث في الرأس بعد اغتيال الحريري) من حركة سمير والمجموعة التي معه تحضيراً لـ «لقاء قرنة شهوان» والسير في خطٍّ شعبي – قانوني – دولي لإخراج سورية من لبنان، ورأى كنعان فيها خطراً على الستاتيكو الذي فرَضَه من خلال حكومة مركّبة وفق أهوائه، ورئيسِ جمهوريةٍ أشبه بمُحافِظٍ في سورية، وطبَقة ميليشيوية تتقاسم السلطة والثروة. التقاه يومها وألقى مداخلةً عصماء، وسمير صامتٌ تقريباً حتى النهاية. قال له كنعان إنه وبحكم علاقته القوية بجميع اللبنانيين و«اختراقه» لهم بالطول والعرض، صار متأكداً ان المسلمين لن يقبلوا بسمير ولو أعلن الشهادتين وصار مسلماً، وان الأفضل له ان تكون ضمانته سورية وان يلتحق بمرجعيات مسيحية حزبية موالية لها ويوفّر تحرّكاته، مقدّماً له كالعادة عرْضاً بأن «يظبطه» في التركيبة الحاكمة مستقبلاً… قبل ان ينهي بما هو معروف عنه: «سورية هنا لتحميكم، وأَنْتَظِر ردّك على العرض… وأنا حذّرتك وغير مسؤول إن قَتَلَك المسلمون».
وَعَدَهُ سمير بالردّ خلال أسبوع، ثم عاد والتقاه وكان هو المتحدّث هذه المرّة وكنعان صامتٌ تقريباً. قال له وكان يسكن في محلّة «مار الياس» في ما اصطُلح عليه «بيروت الغربية» اي عند الغالبية المسلمة: «أخشى ان قراءتك السياسية يا أبا يعرب (كنعان) خاطئة، فقد سألتُ جاري اللحام ابو محمد اذا كان ينوي قتْلي، فسألَني إن كنتُ مريضاً او أعاني من شيءٍ نفسيّ لانه يعرفني مذ كنتُ شاباً ويفتخر بهذه المعرفة، ثم سألتُ جاري صاحب المصبغة ابو مصطفى إن كان يفكّر في قتْلي فأَقْسَمَ انه سيكون حامياً لي إن فكّر أحدٌ في ذلك فهو يعرفني منذ الصغر، ثم سألتُ كاتب العدل ابو حسن السؤال نفسه، فأجابني أنه يعرف والدي وعمِل معه واليوم يتعامل معي وأن المجرم فقط مَن يفكر في الأذية، ثم سألتُ الصيدلاني ابو عدنان…». وهنا أَدْرَكَ كنعان ان سمير يستهزىء به وبمنطقه ويحتقر أسلوبه، فقاطَعَه معلناً ان الإجتماع انتهى وانه كان مخطئاً منذ البداية في طرْحِ عرْضه وان العودة اليه بهذه الردود تعني انه ضيّع وقته معه.
رحمك الله يا «بيك». كم من الروايات ستروى، كم من الحكايات ستحكى… لكنك تبقى الرواية وتبقى الحكاية وتبقى الحلم.