تسمية جعجع للحريري تقطع الطريق على مسعى تحويل المعركة إلى صراع سني – مسيحي!
غريبة هي شماعة الميثاقية كيف أنها تحضر غب الطلب. بالأمس القريب، وعلى زمن هذا العهد بالذات، سُحقت الميثاقية لدى ذهاب تيار العهد وحلفائه إلى تسمية حسان دياب لتولي رئاسة الحكومة. يومها حظي الرئيس المكلف بـ5 أصوات سنّة من أصل 27 صوتاً، وكانت تلك الأصوات تعود إلى «اللقاء التشاوري» الحليف لـ«حزب الله». لم يرف يومها جفنٌ لرئيس الجمهورية وهو يرى كيفية تهميش موقع الرئاسة الثالثة التي كانت فاقدة للغطاء السني السياسي، بحيث لم يتوقف حامي الدستور والمفترض أن يكون حامي العيش المشترك عند هذا الأمر، بل اعتبر أن دياب نال الأصوات التي تخوله أن يؤلف الحكومة، ضارباً عرض الحائط بكل بدعة الميثاقية التي يخاف اليوم عليها وتقول أوساط القصر إنها كانت وراء تأجيله الاستشارات النيابية. وتُدخل هذه الأوساط مصطلحاً جديداً هو الإجماع المناطقي، كتعبير بديل عن إجماع مسيحيي جبل لبنان، بوصفهم قلب لبنان، فيما مسيحيو الأطراف عموماً مشكوك بعمق انتمائهم لفرادة فكرة بلاد الأرز!
في عهد الرئيس ميشال سليمان، وبعدما جرى الانقلاب على سعد الحريري من التيار الوطني و«الثنائي الشيعي»، في العام 2011، دعا رئيس الجمهورية إلى استشارات نيابية على الفور، كانت تلك الاستشارات من شأنها أن تعيد تسمية الحريري، حيث كانت يومها قوى «الرابع عشر من آذار» تملك الأكثرية النيابية. يومها، وتحت وطأة سيطرة «حزب الله» وفائض قوته، أرجأ سليمان الاستشارات أسبوعاً علّ الوساطة الإقليمية والتي كان يتولاها وزيرا خارجية قطر وتركيا مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بالعدول عن «الفيتو» على الحريري. أخفقت الاتصالات ونقل يومها عن نصر الله قوله لمحدثيه: لن يكون سعد الحريري رئيساً ما حييت. فكان الاختراق عبر الرئيس نجيب ميقاتي الذي غطّاه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بثوب «الوسطية»، المرادفة لتغيير موازين القوى في المنطقة.
اليوم، تبدو اللعبة أخطر، بفعل أن لبنان لا يقف على عتبة الانهيار الاقتصادي والمالي، بل هو في قلبه، وينذر الوضع بقادم أسود من الأيام، حيث الفقر والعوز والجوع والمرض والموت باتوا يهددون اللبنانيين فعلاً لا قولاً، وحيث بدأت الدولة بمؤسساتها تعيش حال انحلال وفوضى لا تزال خارجه المؤسسات والأجهزة الأمنية، لكنها لا تستطيع الصمود طويلاً، مع سقوط مقومات الأمن الغذائي والصحي والاجتماعي، ومع تنامي مظاهر الفلتان الأمني وسط مخاوف من استغلال البيئات الفقيرة في مشاريع متطرفة فكرياً وسياسياً.
الحريري نُصح بعدم الإقدام على الاعتذار والخروج من حلبة السباق… فالاستشارات ستأتي به
واللعبة أخطر في ظل محاولة اللعب على الوتر الطائفي الإسلامي – المسيحي وأخذ البلاد إلى اشتباكات سياسية طائفية خدمة لمصالح ضيقة، تفيد هذا الطرف أو ذاك، من خلال تصوير أن ثمة تهميشاً للمسيحيين يحصل، بتجاهل موقف الكتلتين المسيحيتين الكبيرتين اللتين أعلنتا أنهما لن تسميا الحريري الذي أظهر الاحتساب العددي أنه سيحظى بأصوات نيابية مريحة تفوق السبعين من دون «حزب الله».
الخطورة في هذه اللعبة، هي محاولة التجييش الطائفي، وكأن المنطلقات لموقفي «القوات» و«التيار الوطني الحر» متطابقة. المشترك بين رئيس حزب «القوات» سمير جعجع ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل أن كليهما طامح لرئاسة الجمهورية وعينه على الانتخابات الرئاسية المقبلة وينطلق جزء كبير من حساباتهما من هذا الطموح، لكن الرجلين ليسا سوياً في خندق واحد. وقد يكون مطلوباً من رئيس «القوات» في هذا الظرف بالتحديد أن يعيد النظر في الموقف من تكليف الحريري لقطع الطريق على محاولات التحريض الإسلامي – المسيحي وإعادة عقارب الساعة إلى زمن الحرب الأهلية، ولا سيما أن اللحمة التي أنتجتها تجربة «14 آذار» على الأرض لم يخفت وهجها. فتسمية الحريري ستسقط الذرائع ولا تعني منحه ورقة على بياض في مسألة التأليف وإعطاء الثقة للحكومة إذا جاء تشكليها مغيباً. وهذا لا يعفي زعيم «المستقبل» من جملة الأخطاء التي ارتكبها ولا سيما في ذهابه إلى التسوية الرئاسية والتي يتحمل جعجع نفسه مسؤولية لا تقل وزناً فيها.
أما الكلام عن زمن ما بعد ثورة تشرين التي تحتفل غداً بذكراها الأولى، فهو كلام يصح لو أن الثورة استطاعت أن تخرج من متاهة التعميم المطلق ونجحت في الحفاظ على زخمها وعلى قوة دفعها قبل أن يتم شرذمتها، ولو أن البلاد تستطيع أن تصمد في وجه طوفان الفوضى المتعددة الاتجاهات الذي سيضربها، والتي لن تكون معها فرصة لجم الانحلال الكامل للدولة ممكنة. فبقاء الدولة – إذا تحققت إمكانية تشكيل حكومة وفق المبادرة الفرنسية للقيام بالإصلاحات المطلوبة لإعادة القطار إلى السكة – من شأنه أن يعطي فرصة لبروز تكتلات جديدة قادرة على خوض انتخابات نيابية لتجديد الطبقة السياسية في البلاد، ولا سيما أن حصول الإصلاحات سيضعف القوى التي حوّلت الدولة إلى «بقرة حلوب» وعاثت فساداً ونهبت مقدراتها.
يترقب كثيرون مشهد الأسبوع الفاصل عن موعد الاستشارات الجديد. المعطيات المتوافرة تشير إلى أن الحريري نُصح بعدم الإقدام على الاعتذار والخروج من حلبة السباق، ما يعني أن الاستشارات ستأتي به، لتنتقل المعركة إلى عملية التأليف التي سيتم رصدها بدقة من قبل الخارج. أما الذهاب إلى التعطيل مجدداً، فإنه سينقل البلاد إلى أزمة أكبر يصبح بقاء العهد عنوانها، بما تحمله من تداعيات على السلم الأهلي. لا أوهام بأن طريق التأليف – إذا حصل التكليف – ستكون سهلة، فالمطبات ستكون كثيرة أمام الرئيس المكلف، ولا سيما أن موقف «حزب الله» لا يزال ضبابياً، وسيعمل على الانتظار لمعرفة ما ستكون عليه نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، وما إذا كان سيلتقط أنفاسه وإيران، أم أن الضغوط ستبقى متواصلة عليهما.
ما هو أكيد أن حيز المناورة يضيق، وأولها أمام العهد وصهره اللـذين يخوضان اليوم المعركة الأصعب وربما الأخيرة لوراثة العرش بعدما أصبح مستقبل العائلة السياسية في مهب الريح!.