لهذا رفضوا الإستماع إلى جعجع في معراب
وكأننا عدنا في الشكلِ الى الوراء 27 عاماً. كأننا في العام 1994. كأن هناك من يصرّ دائماً على “التلفيق” و”التأليف” و”الفبركة” و”التضليل” و”الإستضعاف”. وكأن هناك من يعمل على خداع الناس كل الوقت وهو خير العالمين أن خداع بعض الأشخاص، لبعض الوقت، قد يكون ممكناً لكن لا أحد يستطيع خداع كل الناس كل الوقت. لذا 2021 لا ولن تكون نسخة عن الـ 1994 ولذلك أدلة. فماذا عن “الوعد الصادق” للقواتيين الذي جددوه البارحة، في الطريق الى معراب؟
أصوات قرع الأجراس إستمرّت تصدح في مناطق لبنانية كثيرة. وكثيرات من الأمهات أمسكن البارحة المسبحة ورحنَ يتلونَ الأبانا والسلام على نية ساكن معراب ولبنان. غريبٌ حقاً كيف تجمع المحن حتى من تفرّقوا. غريبٌ حقاً ذاك الشعور الذي ساد بين المسيحيين، وكثير كثير من اللبنانيين، حين سمعوا بأن ملفاً يُحاك على رئيس “حزب القوات” في 2021 يُشبه في بعض مفاصله ملف 1994. فهل هذا الكلام صحيح؟ هل هناك أوجه شبه بين التاريخين؟
المحامي سليمان لبّس كان مرافعاً مدافعاً عن قائد القوات اللبنانية في العام 1994 وما تلاه، وهو استقال قبل أربعة أعوام من “حزب القوات” لكنه يقرأ اليوم ويقارن، بإمعان، بين التاريخين. فماذا التقط من إشارات؟
المحامي لبّس جزم “بأن تركيب الملفات إستمرّ في 2021 كما في 1994 والهدف منها إضعاف المسيحيين في لبنان. لا شيء تغيّر. قانونياً، طلب مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية من وزارة الدفاع إجراء تحقيقها. وهي فعلت وردّت الأوراق وعلى هذا الأساس أدين 68 شخصاً. وبالتالي، لم يعد هناك أي ملف أمام مديرية المخابرات لتسأل سمير جعجع. لذلك، ذهابه ليس له أي إفادة وكان له كامل الحق أن لا يصعد الى هناك. أصبح التحقيق في عهدة مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة القاضي فادي العقيقي، الذي بإمكانه إذا كان مضطراً الى سماع الدكتور جعجع ألّا يستدعيه شخصياً. لذا كل الطلب ما عاد قانونياً إطلاقاً. ناهيكم ان الطلب وضع لصقاً ولم يحصل أن تمّ ذلك من اول مرة. تُلصق الدعوى إذا تكرر الطلب وكان مكان وجود المطلوب مجهولاً او إذا تبلغ الأوراق ورفضها”.
ليست أوّل مرة يستدعى فيها سمير جعجع للإستماع إليه. ثمة سابقة حصلت في العام 2008 حين ارتكبت جريمة قتل نصري ماروني وأطلق جعجع تصريحات سياسية. فماذا حصل حينها؟ يجيب لبس الذي كان يومها وكيل قائد “القوات اللبنانية” وحزب القوات: “أرسل يومها قاضي التحقيق الأول في البقاع القاضي طنوس مشلب (الذي أصبح اليوم رئيس المجلس الدستوري) طلباً للإستماع الى “الحكيم”، وأرسل التبليغ الى معراب. فقدمت طلباً كي يرسل مشلب للإنتقال هو أو إرسال أحد قضاة التحقيق للإستماع إليه في معراب لأنه غير قادر على النزول لأسباب أمنية. إستجاب طنوس مشلب وانتدب الرئيس جوزف قزي لذلك وجاء في قراره “حيث أنه من غير المناسب إلزامه بالحضور الى زحلة لاستجوابه بسبب الأوضاع الأمنية السائدة، لذلك نقرر تكليف أحد الزملاء القضاة في دائرة تحقيق جبل لبنان الإستماع إليه بصفة شاهد”. وبالفعل صعد القاضي قزي الى معراب ومعه الكاتب طوني زكور وطُرح عليه نحو عشرين سؤالاً أبرزها: هل صرحت على وسائل الإعلام بأن لديك معلومات عن الجريمة؟ ما هو مصدر المعلومات؟ من زودك بها؟ ما هي معلوماتك عن أسباب الجريمة؟ هل تعرف إذا كانت محضّرة من قبل؟ في حال الإيجاب من هو الشخص أو الأشخاص الذين حرّضوا عليها وحضّروا لها ونفذوها؟ هل تعرف إذا كان قد جرى إطلاق نار وقت إرتكاب الجريمة؟ من أطلق النيران؟ كيف فرّ المرتكبون؟ هل يمكن تحديد كيفية تنقلاتهم؟ من ساعدهم؟ أين هم في الوقت الحاضر؟… أسئلة كثيرة سُئل عنها قائد “القوات اللبنانية” لكن في معراب. وبالتالي، ما حصل اليوم أريد منه “إذلال” رئيس “حزب القوات” قبل سؤاله وإذا كان لا بُدّ من سؤال فليكن الى الجميع. وأول من يفترض أن يُسأل هو الوزير الذي هدد من قلب مجلس الوزراء وهو قاض سابق (محمد مرتضى). هم أرادوا وضع كل القضاء تحت عباءتهم وفشلوا.
جعجع أكبر من ان يحرّك الغرائز
فلنذهب في السياسة، ما رأي كريم بقرادوني في أوجه الشبه بين 1994 و2021 خصوصاً أنه كان أحد المدافعين عن سمير جعجع في قضية رشيد كرامي؟ يجيب: “لا أتوقع مطلقاً تكرار واقعة 1994 في 2021، فالظروف تغيرت وتوازن القوى ما عاد نفسه، لذا التشبيه محال وإن كان هناك من أوجد بعض نقاط التشابه شكلاً لكن المضمون لن يتكرر”.
لا أوجه شبه لكن ما حصل متوقع دائماً في كل مرة تكون فيها البلاد على أبواب إستحقاقات دستورية. ونحن متجهون نحو سنة مليئة بإستحقاقين كبيرين نيابي ورئاسي يؤثران على السنوات العشر القادمة، لذا لا يستبعد بقرادوني مواجهة توترات كبيرة من الآن الى تشرين الأول 2022. أما عن إنطباعاته فيقول “انطباعي الأول ان الناس اليوم يريدون جوازات سفر أكثر من رفع اليافطات والأعلام. وهذه المشهدية لم تكن موجودة في 1994 حيث كانت البلاد متجهة، مع سياسة الإعمار والإنماء، الى ازدهار. أما اليوم فيقين الجميع أن البلاد تتهاوى. لذا لا حرب أهلية ولن تكون لأن الجميع مرهق. وأسوأ ما في هذه المرحلة أننا جميعاً غير عارفين الى أين نتجه. المستقبل مجهول بالنسبة الى الجميع. وأسوأ ما يمكن أن يتكرر اليوم هو الشحن بين المسيحيين أنفسهم أما “حزب الله” فوضعيته ليست أبداً لبنانية. ولا يمكننا النظر إليه من منظار لبناني بحت. حين نفكر في “حزب الله” نفكر بسوريا واليمن وإيران وكل المنطقة. اما سمير جعجع اليوم فليس بحاجة الى تعزيز الغرائز الطائفية. إنه أكبر من أن يحدّ نفسه في هذه الخانة. وكل طرف يريد أن يحدّ من قدراته سيقحمه في مواجهات داخلية. وما عليه فعله هو أن لا يقع في هذا الفخّ”.
ننتقل الى الياس الزغبي الذي كان شاهداً هو أيضاً على مشهدية 1994 وها هو اليوم يراقب تفاصيل ما يحصل. يقول: “بعد مرور 27 عاماً على ما حصل في العام 1994 هو استمرار الذهنية نفسها في 2021 من تركيب ملفات وقمع وفرض المواقف. اليوم نشهد نفس الرؤية من جهاز مختلف يعتمد الجوهر ذاته، وبالتالي ثمة تقاطع بين الحدثين على مستوى الشكل والذهنية والخلفية”. يضيف: “الفارق الاساسي أن الحدث الجديد أتى بعد ثورتين، ثورة الأرز وثورة 17 تشرين. لذا، الخلفية ذاتها لا يمكنها أن تنتج ذات النتائج. فلا إمكانية اليوم لفرض تلك الذهنية لأن هناك من سيقولون لا. لا للقمع والسطوة والفبركة والهيمنة. الرفض أصبح أقوى من قبل بكثير. فزمان، قبل ثلاثة عقود، تفردوا بسمير جعجع و”القوات اللبنانية” وركبوا الملفات. والصورة باتت اليوم أكثر وضوحاً”.
اليوم الرأي العام متحفز وواعٍ، بحسب الياس الزغبي، مضيفاً: “التحرك الشعبي القوي الذي نشهده ليس من القواتيين فحسب بل من كل السياديين في البلد”.
موقف إلتحاقي
ماذا عن المشهدية المسيحية بين البارحة، في 1994، واليوم؟ يجيب الزغبي: “في العام 1994 كان “العوني” ضدّ السوري أما اليوم فالتيار العوني مع الجهة التي تتهم، بعدما أسس لورقة الإذعان في مارمخايل وغير قادر على الخروج منها. لذلك بدا موقف هؤلاء من غزوة عين الرمانة – الشياح إلتحاقياً ويقدمون من خلاله ورقة إعتماد جديدة لـ”حزب الله”. اليوم، الوجدان المسيحي موجود في مكان آخر وليس عند “العونيين”. في العام 1994 كان العوني والقواتي يتقاسمان الوجدان المسيحي بينما اليوم هو، وبشكل حاسم وواضح، موجود عند “القوات اللبنانية” أحببناها أم لا، أيّدناها أم لا. فكل مسيحي محايد اليوم أو مستقل يرى في سمير جعجع الوجدان المسيحي. وهذا ما أرعب تحالف الضاحية وضاحيتها (الضاحية وبعبدا). وهذا ما التقطنا إشارته من خلال “حيويات” أهالي عكار وطرابلس والإقليم وبيروت الغربية ومواقف هؤلاء السكان من “القوات اللبنانية” وقائدها. فالكل رأى بكلام حسن نصرالله تهديداً له لا الى عين الرمانة و”القوات اللبنانية” فقط”.
خارجياً الوضع أيضاً ليس نفسه ويقول الزغبي: “هناك مجتمع دولي وطاقات إغترابية محفزة وحالة عربية واضحة من “حزب الله” وسلاحه. “حزب الله” اليوم في مأزق من قلب بيئته و”الشيعوية السياسية والعسكرية” اليوم في مرحلة إنحدار بدأ منذ عامين. وبالتالي مرحلة أفول “حزب الله” وانتقاله من الفرض الى الرفض. “حزب الله” ضعيف جداً اليوم وهو عارف أنه ما عاد قادراً على تغيير قاض بإشارة من الأصبع، وهذا ما جعله يضرب عشوائياً. “حزب الله” بما يفعل يحاول أن يهرب الى الأمام وهو لجأ الى وسيلة الأرض والأمن ليطيح بالقضاء بعدما عجز عن فعل ذلك بمجرد التهديد”.
يبقى أن عين الرمانة لم تتصدّ فقط لغزوة “حزب الله” في 2021 بل وقفت في وجه مخطط تدمير كل لبنان. في كل حال، دلّت التحقيقات الى أن شباب عين الرمانة دافعوا عن أنفسهم بسلاح الصيد، بخرطوش “الفراش” و”الشفر”، الذي وجد على بعض الطرقات، وهذا أكبر دليل أنهم نزلوا عفوياً بما تيسّر للدفاع عن النفس. والبادي دوما أظلم.