بين الزنزانة والحجْر ونيسان وآخر “التونال”
هو ذهول، هي صدمة، هي لحظة مظلمة قاتمة انقلبت فيها “العدالة” رأساً على عقب، هو لبنان، هي غدراس، هو العام 1994، هو 21 نيسان. فكم تمرّ السنون والعقود سريعة ولا يبقى في الذاكرة إلا ما يستحقّ البقاء!
في الحادي والعشرين من نيسان ذاك، ألقوا القبض على سمير جعجع، ليعود ويخرج بعد أحد عشر عاماً برأس مرفوع. لكن، الحياة “بتغيّر” فماذا تبدل في ثوابت سمير جعجع ما بين نيسان ذاك ونيسان هذا؟
هو كان، في تلك اللحظة، في غدراس وهو اليوم في معراب. وحقول البلدتين تمتلئ في كل نيسان بالورود الصفر وبالزعتر البري وأشجار الشربين والسنديان والملول وتطغى في أجوائهما زقزقات العصافير التي تبث شحنات إيجابية في النفوس وفي العقول. هناك في غدراس كانت “كابيلا” للصلاة وهنا في معراب توجد كنيسة، باسم سانت ريتا، للصلاة. وهنا وهناك تتصدر عبارة ملازمة: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟
سمير جعجع، هل تعود وتكرر ما فعلت في 21 نيسان 1994 لو عادت بك العقارب 4114 يوماً الى الوراء؟
سؤالٌ رفعناه الى معراب والجواب أتى مباشراً: لو عادت العقارب الى الوراء سيعود “الحكيم” ويختار الزنزانة: سنة، سنتان، خمس، عشر، عشرون، أكثر… لا يهم… الأهم أنه لن يقبل الرضوخ. سمير جعجع، إبن فريد جعجع، لا يقبل، منذ ولد، الرضوخ. فهو يوم حمل البندقية، كما الكثيرين، اختار المواجهة. ومن يحمل البندقية وينزل الى الجبهة للدفاع عن الأرض والعرض والبقاء لا يبالي إذا عاد حياً أو ميتاً شهيداً. لا خيارات “نص نص” عند هذا الرجل وهو “يثق تماماً أنه لا يمكن للباطل ان يفرض ايقاعه ولا بد للحقّ ان يعود ولو بعد حين وإذا كان للباطل جولة فإن للخير كل الجولات، والحقّ، وإن تأخر، سيعود ويظهر”.
في نيسان، سُجن سمير جعجع في زنزانة تحت سابع أرض، وفي نيسان، خرج الجيش السوري تحت وطأة هتاف “حرية سيادة استقلال”. الحقّ عاد؟ فلنستفد من هذا التاريخ للتوغل أكثر في “الكومبينات” التي تُركب وفي الحقّ الذي يعود ويتسلل كما الفجر والشمس والنهار.
من يسرح في معراب، في “المحبسة” التي اختصرت في تفاصيلها أيام سجن سمير جعجع الطويلة سيقرأ خبراً معلقاً بين أخبار وتفاصيل كثيرة. نقرأ فيه: حمّل الرئيس (الراحل) الياس الهراوي، العائد من دمشق، كلاً من السيدين نادر سكر وبيار الضاهر رسالة عاجلة الى الدكتور سمير جعجع مفادها أن ثمة غيوماً تتكدس في الأفق آتية من الشرق وتنذر بعاصفة هوجاء. كان سمير جعجع مدركاً تماماً لكلّ ما يُحضر لكنه لم يقبل أن يأخذ الحيطة والحذر ويستسلم واختار البقاء والمواجهة ولو من قلب الزنزانة رقم 2 ثم رقم 3 في وزارة الدفاع.
ما معنى استذكار هذه المحطة اليوم، في زحمة الأحداث الكارجة بتفاصيلها المخيفة حيناً والمقلقة أحياناً؟ ما معنى أن نستذكر اليوم، في 21 نيسان، ذكرى حدثت قبل 26 عاماً بينما البلد “على صوص ونقطة”، متكئاً على حفافي الإنهيار؟
أهمية هذه المحطة في قدرتها على التعبير على أن لبنان، بالفعل لا بمجرد القول، مثل طائر الفينيق يعود ويحلق في كلّ مرة. هذه المحطة هي تذكيرٌ لنا، لكم، ولكلّ من يعتقدون أن النهاية اقتربت، وأن لبنان الجميل مات، بأنه “إذا كان للباطل جولة فإن للحقّ ألف جولة وجولة”…. وأن طائراً يستطيع الصمود طويلاً طويلاً بلا طعام لهو طائر عظيم، وأن يعود الى طيرانه ولا ينسى أجنحته، فهذا أعظم.
هي صدفة ربما أن تكون اليوم ذكرى اعتقال قائد لبناني، قائد (رئيس) حزب القوات اللبنانية، في حدث لم يسبق أن واجه مثله لبنان، وأن تليه بعد أيام ذكرى “إندحار الجيش السوري من لبنان” وهي محطة لم يتخيّل النظام السوري أنه سيلقاها في بلد ظنّه محافظة يتيمة من محافظاته. وربّ صدفة خير من ألف ميعاد.
فكيف يقرأ مقربون من معراب هذه المحطة؟
هي محطة أراد النظام السوري من خلالها الإطباق السياسي، في شكلٍ تام، على لبنان. وأتى تلفيق قضية كنيسة سيدة النجاة وإلصاقها بمن استشهدوا وسقوا الأرض دماء لتظل “أجراسنا تدق” ليُتوّج بتوقيف سمير جعجع. في 21 نيسان أرسلت أشدّ رسالة سورية الى سياسيي لبنان “بالجملة” فحواها: الرضوخ وإلا… سيُصيبكم ما أصاب قائد القوات اللبنانية. ويومها فهم سياسيون كثيرون الرسالة ووضعوا رؤوسهم في التراب كالنعامة وانتظموا “شطّاراً” في فلك الإمرة السورية.
كثيرون استسلموا. هناك دائماً من يتراجع ويستسلم في اللحظات الصعبة. لكن، لأننا في لحظة أخرى صعبة، فلنتذكر جيداً تلك اللحظة. سمير جعجع هو أيضاً يأبى أن ينسى. هو رجلٌ حريص على تذكر تفاصيل التفاصيل. وهو يتذكر جيداً ذاك المقال الذي قرأه ذات يوم في زنزانته وعنوانه “أفريقيا الفجر البعيد المنال” Africa’s elusive dawn. فالفجر وإن كان بعيداً بعيداً سيعود ويطل ذات نهار.
الزنزانة رقم 3
21 نيسان 1994- 21 نيسان 2020… هناك بعد وبعد قضاة مثل “الماريونيت”، يتحركون بخيوط خارجية، وهناك قضاة تنحني لهم الرؤوس. وهناك أحكام جائرة وحقوق مهضومة ومظاليم وطغاة. وهناك من يأبون الرضوخ دائماً أبداً. هذا في المطلق، أما في هذه المحطة، في يوم 21 نيسان، فهناك عبرة تستحق أن نتذكرها اليوم وفيها أن من يقرر المواجهة ويأبى أن يتلون ويتبدل لا يمكن لأحد أن يهزمه. أليس الصمود هو أن تحسم أنت أمرك بينما يحزم الآخرون حقائبهم؟
لا يصحّ إلا الصحيح. وكل الظروف القاسية والإحتلالات والمصائب والآلام ليست إلا عبوراً وهي، كما الخميرة، تؤسس الى نضال والنضال بحقّ يحطم أعتى الأنظمة الديكتاتورية.
سمير جعجع سيمشي اليوم في الطبيعة. سيسرح في مخيلته أربعة آلاف ومئة وأربعة عشر ليل ونهار. سيقلب على الأرجح في صفحات كتب طالما لازمته طوال 123 شهراً، أيام السجن، وبينهم: le sport au natural وكتاب “شربل قديس الخوارق” لأنطوان قصيفي وكتاب الدكتور سعود المولى “العدل في العيش المشترك”… سمير جعجع، القارئ النهم، العنيد، يستمر عنيداً وهو الذي لم يقبل ولا يوم بمقولة “اليد اللي ما بتقدر عليها بوسها وادعي عليها بالكسر” المعمول بها من زمان وزمان في لبنان.
في 21 نيسان هذا، وبينما كلنا في الحجر، فلنثق أن الحياة مطبات وبعض المواقف خميرة، والخميرة الجيدة، إذا أخذت وقتها، تصنع العجين الطيّب.