كشفت الوقائع الاخيرة، انّ جزءاً لا بأس به من العرب كان يتحيّن الفرصة لإعادة ربط ما انقطع مع دمشق بأقل مقدار ممكن من الحرج السياسي. وقد أتى الزلزال المدمّر ليشكّل بتداعياته الإنسانية مناسبة للبدء في بناء ما تهدّم من جسور ديبلوماسية كانت قد هدّمتها الحرب ومفاعيلها.
بهذا المعنى، إنطوت زيارة الوفد البرلماني العربي إلى سوريا والرئيس بشار الأسد، قبل أيام، على دلالات مركّبة، اختلط فيها البعد الانساني بالرسائل السياسية، كما يُستدل من تركيبة الوفد الذي ضمّ في عداده دولاً مصنّفة ضمن ما يُعرف بمحور «الاعتدال العربي»، مثل مصر والإمارات والاردن وسلطنة عمان، إلى جانب مشاركة العراق الذي ترأس الوفد ولبنان وليبيا.
وترافقت مبادرة الاتحاد البرلماني العربي مع زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى دمشق، والتي هي الأولى من نوعها لمسؤول مصري منذ عام 2011، علماً انّه سبقتها زيارة وزير الخارجية الإماراتي في سياق العلاقات الدافئة بين سوريا والإمارات منذ فترة، من دون إغفال أيضاً المؤشرات التي عكستها رحلة الأسد إلى سلطنة عمان في هذا التوقيت بالتحديد.
وحتى السعودية توحي وكأنّها تمهّد للاستدارة، ولو بتدرّج، نحو سوريا، بعد مرحلة من التواصل الأمني المخابراتي في الكواليس. وها هو وزير الخارجية فيصل بن فرحان يرفع منسوب الانفتاح، عبر تأكيده خلال مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن في 18 شباط الماضي، انّ هناك إجماعاً بدأ يتشكّل في العالم العربي، على أنّه لا جدوى من عزل النظام السوري، وأنّ الحوار مع دمشق مطلوب في وقت ما، حتى تتسنّى على الأقل معالجة المسائل الإنسانية، بما في ذلك عودة اللاجئين، فيما كانت الطائرات السعودية تحط، عقب وقوع الزلزال، في مطار حلب للمرة الأولى منذ 12 عاماً، ناقلة المساعدات إلى مناطق خاضعة لسيطرة الدولة.
وهناك من يفترض انّ الرياض التي قرّرت منح أوكرانيا، حليفة اميركا، حزمة مساعدات انسانية ونفطية بقيمة 410 ملايين دولار، انما تحاول في المقابل ان تستحوذ على هامش تحرّك في ساحات أخرى ومن بينها سوريا، خارج إطار الضوابط او القيود الأميركية.
وتتفاوت التفسيرات لمغزى هذا الانفتاح العربي على سوريا، إذ يضعه حلفاء دمشق في خانة إقرار الدول التي كانت تقاطع الاسد وتسعى إلى إسقاط نظامه، بفشل مشروعها وسقوط رهانها، بعدما انتصر الأسد وداعموه في الحرب. بينما يميل آخرون إلى إدراج المرونة المستجدة حيال سوريا، في سياق محاولة سحبها من الحضن الإيراني او على الاقل تحقيق توازن معه.
وبمعزل عن مغزى تلك التحولات الآخذة في التشكّل، فإنّ اللافت انّ البعض في لبنان قرّر ان يعاكسها وأن يغرّد خارج السرب، كما فعل رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، الذي نشر عبر «تويتر» مجموعة من التغريدات الحادّة، ورد فيها إنّه «من المخزي حقاً ان نرى وفداً من البرلمانيين العرب يستفيد من مأساة الزلزال الذي حلّ بالشعب السوري لكي يقابل بشار الأسد، وإذا كان البعض يكُّن الإعجاب للاسد فهذا شأنه، ولكن لا يحقّ لأحد ان يسوِّق له من جديد في الصف العربي»، متهماً من يطبّع مع السلطة السورية بأنّه يطبّع مع إيران الممسكة بها. وغيرها من التغريدات الشديدة اللهجة التي بدت مفاجئة، ليس في محتواها وإنما في وجهتها.
ويلفت خصوم جعجع، إلى انّ مقاربته السلبية للتواصل العربي المتطور مع سوريا، تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الواقعية السياسية، التي لا يجوز أن يخلط بينها وبين عواطفه المعروفة حيال القيادة السورية.
ويعتبر هؤلاء، انّ مواقف جعجع كشفت انّ «أنتينات» معراب لم تلتقط كما يجب تحولات الإقليم، ولم تُحسن فك شيفرة ذبذباتها، ما يؤشر إلى انّ «الداتا» لديه ناقصة، أو انّ هناك خللاً ما في مواكبة إيقاع أصدقائه الإقليميين.
ويشير معارضو نهج جعجع، إلى انّ هجومه الاخير على زائري دمشق موجّه بالدرجة الأولى ضدّ مصر والإمارات والاردن، التي لطالما كان محسوباً على خطها السياسي في المنطقة، وكذلك ضدّ العراق الذي يمثل مساحة تقاطع إقليمي- دولي. وحتى انّ رئيس «القوات» لم يأخذ في الحسبان انّ الرياض نفسها عدلت في نمط تعاطيها مع الملف السوري. لافتين إلى انّه لو كانت الزيارات العربية إلى دمشق تقتصر على ممثلي دول الممانعة لأمكن تفهم سلوك جعجع، ولكن العائدين اليها هم حلفاؤه العرب بالدرجة الأولى، وردّ فعله يعكس نوعاً من الإدانة لهؤلاء بكل ما يمثلونه اقليمياً.
ويعتبر أصحاب هذا الرأي، انّ الجهات اللبنانية المعترضة على ما يجري، ظهرت غير قادرة على مجاراة مقتضيات الخطوة العربية وضروراتها الاستراتيجية، متسائلين: لماذا هناك في لبنان من لا يزال يصرّ على التصرّف كالنعامة والتعامل مع الوضع السوري انطلاقاً من حسابات العام 2011، التي كانت مبنية على فرضية أنّ سقوط النظام السوري مسألة وقت، بينما عتاة المواجهة مع هذا النظام في الإقليم قد أقرّوا بأنّ لا مفرّ من إعادة مدّ الجسور معه؟